ياسر حجازي
1. الحرية والمسؤولية:
حينما ينفّذ الإرهابُ عمليةً إجراميّةً، تذهب ضحيتها أرواح لا ترتبط نهائيّاً بمبرّرات ومزاعم منفّذي العملية ثمّ تعلن حركة أو جماعة تنتمي إلى حركات الإسلام - المسلّحة، لوجدت حينها جماعات من المسلمين عبر مؤسّساتهم السياسيّة والدينية وآخرين مستقلّين يتبرّأُون من فعل الإرهاب -وهذا طبيعي وليس بمستغرب- تحت توضيحين دائمين: (أ) أنّ الفاعل لا يمثلها بتاتاً، (ب) أنّ الأفكار والمواقف والأفعال التي يتبنّاها الإرهابُ ليست من الإسلام بشيءٍ؛ وهم يتّفقون في ذلك رغم اختلافاتٍ طفيفة بين صيغ متعدّدة لهذا الاستنكار، وذلك تبعاً لاقتراب أو ابتعاد الفاعل من مذهبها الدينيّ ومؤسّسته السياسيّة بصفة عامة.
والحال على التكرار والاستنساخ عينه، إذا صدرت تصريحات أو كتابات من أفراد ينتمون لحركات الإسلام السياسي (الذي يُظهر أنّه يختلف عن الحركات المسلّحة، وأنّه لا يعترف بالعنف وسيلة لخطابه الديني السياسي الإقصائيّ) لوجدت المؤسسات الدينية الحاضنة لهذه التيّارات تتبرّأُ كذلك من فعل الإرهاب وتنسبه إلى الأفعال الفردية؛ حسناً، ماذا نلاحظ من هذا الاستنكار المتكرّر بوضوح؟ ألا يقع في تعارضٍ تامٍّ بين احتضانه لسياسات وإجراءات الوصاية على الفرد وطمس حرياته والحرص المستبدّ على إلزامية تبعية الفرد المطلقة لنطاقات الجماعات ومتطلّباتها! ألا تلغي هذه الإعلانات المتكرّرة فاعلية وصاية الجماعة على الفرد في ضبط أفعاله كما يدّعي سدنة الجماعات! فحينما تتقاطع وتتعارض أفعال الفرد مع توجّهات الجماعة (المعلنة) حينذاك تتناسى الجماعة كونها الحاضنة الأموميّة/الطوطميّة وتمضي قفزاً على واقعها إلى (الفردية) بوصفها المسوؤلة عن نفسها؟ ولكن، منذ متى كان الفرد في اهتمامات الجماعة؟ منذ متى كان حرّاً في اختياراته وقراراته!!!
أليس في هذا تحديداً بطلان حجج الوصاية لطالما فشلت الوصاية في ضبط (أفرادها القاصرين)! ما الذي يبقى لها تحت منطق: (الجيد هو نتيجة خطابنا والسيء ليس تأثيرا منا) ما كان جيّداً من الأفراد فإنّه نتيجة لحضانة الجماعة، وما كان باطلاً وفاسداً من الآفراد فإنّه من مسؤوليّة الفرديّة نفسها ونتيجتها؟ ولكن هل للحرية متّسعٌ في سطوة الوصاية؟ هل يملك الفرد ضمن هذه السطوة حرية تجعله مسؤولا مسؤولية كاملة عن تصرفاته دون روابط خلايا تأثيرية وتحريضية ترهن حياته وسلامته لمدى الخضوع لها!
هل تستوي هكذا موازين اليوم أمام ارتفع منسوب الوعي لدى أفراد هذه الجماعات، أمّا أنّنا نتعجّل حينما نراهن على أبسط علامات ظهور الوعي السياسي الفردي لدى الأفراد.
لا شيء لديّنا ضدّ تصوّر الفرد وحملان المسؤولية لأفعاله، بل هو أصل الواقع ومادّته في مرجعيّة الفرد ومسؤوليّته عن أفعاله ضمن بيئة حريّة تمنحه حقّ الاختيار والاعتقاد والتصرّف والرفض والقبول، لا شيء لدينا ضدّ هذا التصوّر إذا كان مكتملاً بفعل تشريعي ومحصّناً قانونياً على أرض الواقع، بفعل يلغي حالة ثبات ممثّلي الجماعة بعد هذه الإعلانات وإصرارهم على عدم رفع وصايتهم عن الأفراد، بوصف الفرد أولاً وأخيراً مسؤولاً عن أفعاله تحت اشتراطات الحريّة ومتطلباتها.
2.الحرية والتعدّد:
خضعت شعوب الإنسان القديم لمفهوم الوحدة المركزية بالقوة المسلّحة وبمساندات قوى دينية كانت تخضع الناس؛ وكانت هذه الشعوب كلّما تقدّمت في حركة التاريخ تزداد استقلالاً عن المركزيّة الأحاديّة باتّجاه المزيد من التحرّر ثم الحريّة، حتّى وصل العالم إلى ما وصل إليه من تعداد كبير في كياناته السياسيّة المستقلّة الصغيرة، التي لا تملك القوة لكنها تملك حقّ تقرير مصيرها واستقلالها، وتحت هذا التصور (المختزل والمضغوط) يمكن أن تفهم العلاقة الطردية بين تطور الإنسان والتعددية وبين تقهقر الإنسان والأحادية.
كلما عدت إلى حقبات تاريخية ضاربة في القدم لتراجع عدد الكيانات وانعدم التمكين لحريات الأفراد وحقوقهم خارج الاستبداد الاجتماعي الذي يفرضه الكيان على أتباعه في ظلّ غياب الوعي الفردي وطغيان الطبقية، وفي المقابل المعاكس التقدّمي تجدّ أن الإنسان كلما زاد علمه ووعيه بحرياته الفردية وحقوقه ازدادت مسؤولياته وظهرت إلى جوار القوّة المسلحة قوّة أخرى فرضت نفسها في ظلّ تراجع الجهل والتبعية وتلاشي مفاهيم طبقية وعنصرية واستبدادية لمصلحة مفاهيم فرضتها اشتراطات الصناعة والمادة.
انظر حولك الإنسان الجديد وعدد دول الشعوب التي تحكم نفسها ولا تملك القوة! انظر حولك الفرد الذي خرج من صندوق الجماعة ليكون عوناً لها، انظر كيف كان في حالات كثيرة هو المنقذ بما قدمه من اختراعات طبية وصناعات وإنتاج ما كان للإنسان أن يحمي كياناته ويستمرّ في حياته إن لم تكن عطاءات هذه الفردية المنتجة في شتّى الحقول حال تحرّرها من قيود المجتمع وقيود الجماعات!
لم يعد لأوهام دعاة الخلافة أو أي شكل من أشكال الوحدة الاستبدادية تحت نعرات قومية أو دينية، فلقد وصل وعي الحرية لدى الإنسان إلى انتشار فرض التعدّديّة كحال معترف بها بين أكثر شعوب العالم، غصبا عن قلّة هنا وهناك، قلّة ما زالت محبوسة في صندوق الاستبداد تحلم أن تحكم العالم وتستبدّ به وتجعله على هيئتها؛ هذا الحلم -بحدّ ذاته- صار كابوساً مرفوضاً، ومجرّد هلوسات جهولة لا يتجرّأ زعيم في العالم البوح بها دون أن يتعرّض لاستهجان وسخرية العالم.
هذا العالم الذي صار ممكنا وقابلا للتعايش بفضل أفراد لا يعنيهم محو العالم في هيئتهم، لا تعنيهم الثقافة التي ينتمون إليه إلى درجة تسخير عقولهم خدمة لها، لا تعنيهم صناديق أهلهم وليس في وارد القتال من أجل تلك الصناديق؛ هذا العالم صار متمكناً وقابلاً للتعايش أكثر من أي وقت مضى بفضل هؤلاء الأفراد الخارجين من صناديق ثقافية ضيقة، أمثال: بيل غيتس وستيف جوبز وغيرهما من الفرديات الذكية الصانعة لوسائل إيجاد الحرية وشيوعية المعرفة؛
هذا العالم لم يعد قابلا لإنتاج إسكندر أو جينكيز خان أو أباطرة الرومان أو سلاطين آل عثمان وغيرهم من الفانين الذين حاولوا أن يمسخوا من طبيعة العالم التعددية لإخضاعه لأحادية تامّة كانوا يتوهّمونها، لكنهم فشلوا في صنع العالم على هيئتهم، فقد رحلوا هم وأحلامهم ووسائلهم وانتصر التعدّد غصباً عن أنوفهم. العالم اليوم قابل لإنتاج المزيد من هؤلاء الأذكياء الذين جعلوا العالم قابلاً للحياة تبعاً لطبيعته التعدّديّة.