ياسر حجازي
(1)
قدرُ الإنسان إذا أراد أن يكون له معنى مؤقّت يرضيه، فذلك مدلوله في إزاحة الأوهام وتطهير الوعي زمناً بعد آخر من سلطة الأوهام وتخبّطات مسارها. وهذا ما يسعى إليه الخطاب المعرفي المادي الذي يتصدّر المشهد الإنساني في أوروبا والعالم الغربي في سبيل الانتصار على الوهم الذي هو جزء من الوعي استطاع عبر التاريخ وقلّة المعرفة أن يسيطر على الكلّ، بحيث يكون المعنى الأكثر ماديّاً ووجوديّاً للإنسان اليوم: هو محاصرة هذا الجزء الموهوم في الوعي وإعادته إلى حدود لا تؤثّر على بقيّة ماديّة الوعي واقتران معارفه وعلومه بالمادة والتجربة.
(2)
رُغم ذلك، تجد الجزء الوهمي المستبدّ في عقل العربي يرى نيابة عنه، ويصوّر الأمور جميعة على عكس حقائق وجوده المحتملة؛ يرى جزءاً، ثغرة، خطأ ما، ذلّة، هفوة... يستهويه أن يرى أخطاء الآخرين إذا ما تفوّقوا عليه..
هنا يصبح الوهم نفسه شريكاً للعربي في صراعه مع الغربي، ولأنّ معركة الغربي اليوم هي محاربة الوهم لاستئصال استبداده وإزاحة سلطته على الوعي، فإنّ الوهم العربي يشركه في المعركة على أنّها معركة وجوديّة ضدّ العربي نفسه، وليس ضدّ استبداد الوهم.
(3)
العربُ محلّ شكوى دائمة، صار ادّعاء المظلوميّة سمة في خطابنا اليومي، في إعلامنا الداخلي، في حواراتنا بيننا داخلياً، وكذلك بيننا والعالم الخارجي، الخطاب هو نفسه، خطاب مليء بالشكوى ولا تخلو حجّته من هزالة في تبرير ضعف لا يقبله عاقل.
نتعمّد تجاوز نقد سلوكنا وموقفنا من العالم ونُخطئ في نقد العالم؛ لا نرى فعل أوروبا الرسمي مع اللاجئين في سعيهم لتوفير حياة كريمة وإن كانت بحدود متدنيّة، لكنّها حدود لا يصل إليها اللاجئ في الوطن العربي صاحب الخيمات والهبات والشتات الداخلي المرير؛ ما نصطاده في حكاية اللاجئين وأوروبا هي الأصوات الشاذّة الأوروبيّة - على قلّتها وشذوذها ومسوّغات وجودها ومعارضتها للخطاب العام السياسي والأخلاقي - ثمّ نسلّط الضوء على هذه الأصوات الشاذة لنصوّرها أنّها رسميّة، وأنّها تمثّل كلّ أوروبا، ونقف عندها دون غيرها، في محاولة لتبرير عجزنا وعنفنا وضحالة قدرتنا على التعامل مع المواقف الصعبة في مسألة اللاجئين، وكي لا يلومك أحد وأنت ترمي الإنسان المعاصر في البريّة تحت خيامٍ مخصّصة للنكبات والمآسي هي قدرتك أو مفهومك في العون.
هل قدّمنا ما قدّموا؟
نحن نعيش بثياب القرن السادس للميلاد، محبوسين في زمن تاريخي، نقدّسه، نتقمّص شخوصه، نمثّله، نُعيد تمثيله بناء على افتراض الممثّل والكاتب والمخرج، نمتثل لتصوّرات تاريخيّة أو مختلقة، نطيعها، نطوّعها، نكون طوعها ونَطْعَها، مؤبّدين في الغياب، مسلوبين من رؤية هذا الوهم الذي نفرد له صحفاً وكتابات وكتباً ومحطات وقنوات، ولا ندع منتجاً من منتجات العلم والعقل إلاّ ونستخدمه في تسويق الوهم، وتثبيت خطابه الأوحد.
(4)
أين الهويّات الوطنيّة؟ لماذا تأخّر نشوؤها؟ كيف وإلى ماذا أفضى حملان الازداوجيّة الانتمائيّة في ضيق أوهام القوميّة والدينيّة؟
الانتماء لوهم القوميّة العربيّة، الانتماء لوهم أكبر عند دعاة الوحدة الإسلاميّة في أجندة وحلم الخلافة الإسلامية - الوهم الأكبر.
الوحدة ذاتها أصبحت مسألة من مسائل التاريخ، وكوارثها معروفة في الحربين الأولى والثانية؛ سوف يخرج حادي خطاب الوهم ويسأل بطريقة تفكيره الموهومة: (وماذا عن الاتّحاد الأوروبي؟) الاتحاد الأوروبي لا يعني نهائيّاً (وحدة)، ولا يعني نهائياً ما تعني أوهام دعاة الوحدة الإسلاميّة أو العربيّة، هو اتّحاد وليست وحدة، هو اتّحاد يؤكّد على الاختلاف، يؤكّد على التعدّد، يؤكّد على الحريات، يؤكّد على الفردية وحقوقها، ولا يقوم على فرض قوميّة بعينها، ولا يقوم على فرض مذهب ديني بعينه، ولا يقوم على فرض وحدة جغرافيّة؛ أمّا دعوة خطاب الوهم فإنّها تريد أن تقوم على فرض واستبداد قوميّة معيّنة على قوميّات أخرى، كذلك دعاة خطاب الوهم الديني في أوهام الخلافة، فإنّها تريد أن تقوم على فرض واستبداد تصوّر مذهبي محدود فئوي يفرض داخلياً على بقيّة أتباع المذهب نفسه ويلغي تصوّراتهم، وعلى بقيّة المذاهب والأديان.. أيّ استبداد وأوهام في هكذا خطابات تبشّر بالموت على حساب الحياة.
(5)
اليأس من الواقع الحيّ الحاضر بتأثيره عليك لا يجب أن يستغلّه الوهم لتبرير الردّة الحضاريّة وعكس ماديّة التطوّر؛ فكلّ خطاب يرى الماضي أفضل من اليوم هو خطاب واقع تحت تأثير أوهام ارتداديّة تنقد الحاضر ليس لأجل تطويره بل لرفضه تماماً والدعوة للعودة إلى الماضي الميّت، الوهم أن ترى حركة التاريخ تمشي ارتدادا، وتتعمّد أن لا تراها كما هو واقعها عبر الوثائق والوقائع، أنّه تاريخٌ تصاعديّة في مصلحة الإنسان، وأنّ كلّ زمان هو أفضل من الزمن الذي يليه، وأن الإنسان ما زال ينتصر على الوهم ويهزم الإنسان المستبدّ، الواقع تحت استبداد الوهم.
(6)
الوهم أن ترى لوجودك معنى في هذا الكون يا ذرّة لا تذود عن شيء ولا تزن.
(7)
الوهم مرتبط بصفة عامة بوجود الوعي في الإنسان، وهو أسوأ ما في الوعي لكنه من ضرورات وجوده؛ ورحلة الإنسان وتحدياته هو هذا التحرّر من هذا الاضطرار في سبيل الحرية بمفهومها الإنساني المتطور، وليس في سبيل الاكتفاء بالغريزة - الأم: (الطوطمية والحيوانية)؛ فصحيح أن الغريزة - الأم لا ترتبط بالوهم كارتباطه بالوعي، لكن الوهم قادر إذا ما سيطر على الوعي أن يجعله في خدمة (غريزة اصطناعية) اختلقها عنف الإنسان عبر وقوعه في الأوهام، مما جعله يبرّر القتل لأجل القتل، يبرّر القتل لأجل فكرة - معنى هو في حقيقته معنى موهوم أنتجه الوعي دون تجريب ومعرفة، فقط تحت تأثير الوهم؛ وهذا شيء دخيل على الغريزة - الأم.
توضيحاً لما سبق:
إذا ظهر الوعي الآن في حيوان مفترس فإنه سيكون وعياً بدائياً واقعاً تحت تأثيرات كاملة للوهم ممّا يسهم في ظهور غريزة استبدادية مصنّعة، فلا يكتفي بمقتل فريسة والتهامها حتى الشبع وهذا سلوكه في طور الغريزة الأم، بل سوف يمارس قتل فرائسه (بعد الشبع) تحت سؤال يفرضه الوعي: (ماذا لو لم أجد فريسة غداً؟)؛ وهذا شكل طاغٍ من الوهم وسيطرته على الوعي.
هنا يظهر القتل من أجل فكرة الجوع لاحقاً، ويظهر قتل النوع نفسه في منافسة إقصائية لأجل التأكّد على ملكية الفرائس: (ماذا لو قضى على الفرائس كلها ولم يترك شيئاً لي؟)/ أسئلة الوهم في الوعي...
شيء من هذا ربما يفسّر رحلة الإنسان من توحشّه الأول وصولاً إلى الإنسان الذي يدافع عن حقوق الإنسان دون أوهام سلطوية وأوهام ملكية وأوهام أخرى خلقتها الثقافات واستعبدت الإنسان.
ولذلك، إن كنّا اليوم ننقد حجم سيطرة الوهم على الوعي العربي، وعدم تسارع تطورنا، لكن ذلك لا يجعلنا نقع أسرى اليأس والارتداد، فحركة الزمن التاريخي لصراع الأوهام التي يخلقها الوعي هي حركة تصاعدية - تطورية لمصلحة التحرّر من سطوة الأوهام والمعاني والثقافات.