ياسر حجازي
1
غياب العلم عن العقل يستعاض عنه بالوهم، بالنقل، بالاستسلام للماضي، بالخوف من كلّ شيء، بعداء كلّ مختلف، بالتطرّف، بالعنف؛ ولكن، هل من المقبول أن نضع تصوّراً للعقل وجدلياته بين العلم والوهم ثمّ نقصي كلّ مَن يفكّر ويعمل تحت تأثير تصوّرات وأساليب معكوسة -أو في أقل تقدير- مختلفة؟
هل الوهم موجود في غير الإنسان؟ هل هو شيء آخر غير العقل نفسه؟ أم هو جزء منه: بعضه أو معظمه أو كلّه؟ هل هو خارج الوعي أم جزء من طبيعة الوعي وشكوك الوعي وإخفاقات الوعي؟ ما هو الوهم في حالة غياب استبداد تصوّر معين له الغلبة والسيادة؟ ما هو العلم بغياب أجندة ما؟
لا بدّ من مرجع عقلي نتحكم إليه ونقبله معاً في حوار ما، حتى يكون الجدل بلغة لا تتعارض بين أطرافها، وذلك أصل في الجدل بدونه يبقى عقيماً ويصبح الحوار نفسه آلة لمزيد من الخلاف والتطرّف عوضاً أن يكون آلة للحلول والتوسّط والتعايش والتهدئة.
- مصادرك حجّة عليك وليست حجة لك.
- مصادري حجّة عليَّ وليست حجّة لي.
الحكم إذن في قياس الوهم والعلم في العقل هو الواقع نفسه ونتائج الوهم ونتائج العلم؛ الواقع هو المصدّق، هو المحكّم؛ ولكن، مرّة أخرى: كيف يكون الواقع مرجعاً إذا كنّا كلانا نختلف في ذلك، كلانا يعود إلى تصورات معكوسة في رؤية الواقع:
- ما هو فيلٌ يراه العلمُ فيلاً، وقد يراه الوهم عصفوراً أو شيئاً آخر لا شأن له بالفيلة!
كيف يتقابلان؟ عقلٌ يُسمَّي الأشياء بأسمائها والواقع بأحداثه بعقل يرى الواقع نتيجة لأشياء من خارجه، ليس لها أي دليل في الواقع، يرى الواقع كذبا وسراباً ووهماً ويرى خيالات ذهنه وأوهامه واقعاً يقضي عمره ينتظر وجودها وانكشافها لجميع من ينكرونه لأنّها غير موجودة على أرض الواقع؟ كيف يكون الحوار والجدل إذن؟ بين عقل يعتبر الواقع حكماً على أفكاره وبين عقل ينطلق من نكران الواقع ونتائجه ويحتكم لآراء ومسلمات من ورائه؟
كيف يمكن الجدل بين هاتين التركيبتين من الأدمغة؟ حين يكون جدلي وحجتي تستند إلى ما هو مرفوض في عقلك وعملية تفكيرك وذهنك، وحين يكون تفكيرك وطريقة إقرارك مرفوضة لذهني، هكذا لن نصل إلى شيءٍ يجمعنا سوية دون شرط الإقصاء، وبالتالي، يكون الجدل سببا إضافيا في اتساع الفجوة؛
- ما أبعد المسافة بين عقلين متعارضين ومعكوسين!
- هذا ينكر الواقع بالوهم.
- هذا يعترف به بالعلم.
- ما أبعد اللقاء بين الوهم وبين العلم
- ما آبعد المسافة بين الغرب والشرق!!!
ولكن، هل يخلو العلم من بعض وهم، وهل يخلو الوهم من بعض علم، مثلماً لا يمكن للشرق أن يخلو من بعض غربٍ وكذا الغرب لا يمكن أن يخلو من بعض شرق..
2
ما زال في الشرق من يرى الغرب مختلفاً كلياً، بل، وللأسف، فإنّ كثيرين على هذا التصوُّر والاعتقاد!
وهذا التصوُّر بحدّ ذاته قد يكون مقبولا إن كان مقصد التوصيف و التصنيف إظهار الاختلاف؛ فالغرب علمي وواقعي على الغلبة، والشرق خيالي ووهمي على الغلبة، لكن المشكلة في الصراع هي وقوع هذا التصور تحت أجندة التبرير والتحريض: (أ) تبرير العجز، الفقر، الجهل، العوز، الهزيمة، الظلم، القهر، الاستبداد وغيرها من مفردات الضعف والغياب، و(ب) تحريض ضد الآخر، ضد التقارب، ضد التعايش؛ والمحصلة من وراء هذه الأجندة هو المزيد من الغياب والتيه في الوهم وزيادة المساحة الفاصلة بيننا والعالم.
أليس في هذا التصور ما يعمّق الخلاف والتطرّف والعنف، أليس في هذا التصوّر أيضاً مسؤولية ما عن العنف؟ ما الذي يتوقّعه حامل هذا التصوّر من تصوّره؟
كيف يمكن أن يساعدك: «أن ترى الآخر سبباً لجحيمك»؟ كيف يمكن أن تتقابلا وأنت في حالة رفض تامٍّ له؟ كيف يمكن أن يذهب جحيمك بوجوده؟ ألست تريد القول بطريقة أخرى: إذا أقصيت الآخر زال جحيمي؟ فزوال الأسباب أصل في زوال النتائج.
فإذا كنت على تصوّر أن الغربَ أصلٌ وسببٌ في كوارثك الشرقية، وما زلت غارقاً في أوهام عودة الحروب الصليبية ونظريات المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين فإنّك واقعٌ في الإقصاء والتطرّف علمت بذلك أم لم تعلم، فاحذر الوقوع تحت خطاب إقصائي وما يلحقه من تبعات اعتبار الغرب سبباً لمآسيك.
أوهام الصراع الديني، نظرية المؤامرة، صراع الخير والشر، بعض مفردات رئيسة في كتاب خطاب الوهم الذي يتلبّس العقل العربي المتورّط بنسب عالية من الوهم في تصوّراته، وفي مواجهته لخطاب العلم، ولا يبدو في الأفق الشرقي العربي مجالاً في المدى المنظور لتطعيم هذا الوهم بقليل من العلم، لطالما هذا العقل الموهوم يستخدم كلّ وسائل العلم لأجل تثبيت الوهم: فانظر حالنا: نستخدم علم الغرب لأجل نشر أوهامنا.
3
هل يفترض في سياق هذا المقال أن يطغى اليأسُ بحيث لا وجود أمل على التقارب وتقليص هذه المساحة بين العلم والوهم؟ هل من العلم هذا اليأس؟ وإن وقعت فيه ألست تقع أيضاً في التطرّف؟ حينذاك عليك بسبب العلم الابتعاد قدر ما أمكن عن الوهم فأنت مضطرٌّ لاستمرار الكتابة فيما ينقد استبداد الوهم في العقل، واستمرار التأكيد على وجود أمل وأماكن كثيرة ممكنة أن تقلّص الفجوة بيننا والعالم على الرغم من كلّ محاولات الوهم في توسعة المساحة الرافضة للتعايش عبر إشاعة الأوهام والمؤامرات والوساوس؛
فإذا كان العقل الموهوم يؤكّد وهماً على عدم التلاقي نظراً لتبريراته وأهدافه في الإقصاء وسقوطه في التطرّف واليأس علمَ بذلك أم لم يعلم، فأنت إذا كنت تجنح للعلم في عقلك فأنت مطالبٌ دونه «علمياً» برفض الوهم وملحقاته ونتائجه، وخاصة إذا وقع في نتيجة إقصاء الآخر وتصويره بعبعاً وسبباً في الهلاك، وأنت مطالب بعدم فقدان الأمل والإصرار على المطالبة والعمل على نشر العلم في العقل العربي بدلالاته العلميّة والواقعية في هذا الشرق المهوس بالوهم، دون أن يتلاشى عقل الشرقي من وجدانه في معادلة تركيبية لا تعتمد الإقصاء كما يتخيّلها العقل الغائب في الوهم.
خطاب الوهم في العقل عواقبه وخيمة، فالإقصاء والجمود والخوف والتطرّف بعض مفرداته فتخيّيلْ أو انظرْ في خطابهم وواقعهم: كيف هي النتيجة!!
وانظر إلى مفردات خطاب العلم في التعايش والإنسان والخروج من شروط الثقافة، وانظرْ واقعهم: كيف هي النتيجة!!
- المشكلة أنّك تنظر هنا وتنظر هناك، ولكنّ إجابتك وتصوّراتك سوف تكون متأثّرة بنسبة الوهم في عقلك.