د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
في هذا المقال سنتطرق لموضوع يشغل بال الكثير من المواطنين وهو التناقضات التي يعيشها البعض أحياناً بين حرصهم على أداء واجباتهم الدينية على أكمل وجه، وعدم الاهتمام بالقدر نفسه بأمور أخلاقية تعدها الكثير من المجتمعات الإنسانية أساسية لتنظيم حياة المجتمع، وهي عادةَ تتعلق ليس بالفرد نفسه بل بالآخرين ممن يشاركونه في الحياة في هذا المجتمع، كالالتزام بالنظام، والنظافة، أو الحرص على البيئة، أو في بعض الأحيان الالتزام بالقدر ذاته بأمور الصدق والأمانة.
وقد اكتشف العلماء مؤخراً أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك جينات لها علاقة بالاهتمام والرعاية التي لا تتوقف عند أبنائه فقط، بل تمتد لأبناء جنسه وللكائنات الأخرى. أي أن الإيثار جزء من طبيعة الإنسان والتربية إما أن تنميه أو تهمله وتقلصه.
ويشكل الدين من فجر البشرية أحد أهم مصادر القيم الأخلاقية، وجميع الديانات تعلي من جانب الإيثار وتحض على الإحسان والرفق. إلا أن الكتب السماوية تحدثت عن قواعد الإيثار فقط وتركت التفاصيل للإنسان نفسه. فالديانات جميعها بما فيها تلك التي سبقت الديانات الربانية تنبع من تصور عقدي للطبيعة البشرية يتم تلقينه للنشء منذ وقت مبكر. وجميع الديانات تحض على الأخلاق الحميدة، والقيم الأخلاقية التي أتت بها الكتب السماوية تعد أساسية لسلامة الفرد والمجتمع.
والاسترسال في شرح هذا الأمر قد يأخذنا إلى آفاق بعيدة ويبعدنا عن موضوعنا الأساس وهو الازدواجية السلوكية في تصرفات بعض الأفراد بما يوحي أن الفرد قد يعيش بأكثر من نظام أخلاقي تتعايش في ذهنه وتجعله يتصرف بشكل متناقض أحيانا. وقد حذرنا الله في القرآن ممن يقولون مالا يفعلون.
ولكننا أحيانا نركز في الوعظ على جانب التمسك بالعبادات وأداء الفرائض بأكمل وجه، وننبه للعقاب العظيم الذي يتنظر من يتركها أو يقصر فيها ولكننا لا نركز بالقدر ذاته على جوانب الوعي والإيثار، ونعتقد أنه إذا تمسك الفرد بأداء فرضه تجاه ربه فهو سيستدل ذاتيًا على أهمية الأمور الأخلاقية الأخرى إلى تدخل في باب المستحبات لا الفروض.
وقد نتعجب أحياناً من بعض التصرفات في مجتمعنا ممن يبدو عليهم الحرص الكثير على أداء أمور عبادتهم كاملة، والحرص على الظهور بالمظهر الورع ولا ينعكس ذلك بالشكل المطلوب على سلوكهم أو تعاملهم مع الآخرين أو مع المجتمع والبيئة، وخاصة في أوساط الشباب. وقد نعجب أيضًا ممن يتطرف في التمسك بأمور الدين ثم يقدم على أفعال تتناقض معه بدءاً من الغش أو التزييف وانتهاءً بالتطرف والإرهاب وقتل الأرواح البريئة بغير حق تحت ذرائع ومسوغات غير منطقية. ولنا مثل فيمن يريد الذهاب للجنة شهيداً بتفجير نفسه وقتل أبرياء آخرين ولا يكلف نفسه مجرد التفكير في منحهم الفرصة ذاتها لإكمال حياتهم وربما التوبة والذهاب للجنة مثله!! فهناك تناقض صارخ في أسلوب تفكير من يتقرب لله بقتل خلقه، ويعتقد مع ذلك أنه من الفرقة الناجية المختارة!
وقد حيرت هذه الأسئلة في عمومها كثيراً من الشعوب الأخرى من غيرنا، فالمسيحية في أحلك عصورها كانت تعيش تناقضات الورع والفساد والوحشية. وما زالت الفضائح توافينا بين كل فينة وأخرى من دعاة يظهرون في أهم البرامج الوعظية الأمريكية وكأنهم يجسدون أخلاق المسيحية التطهيرية بمنتهى الكمال، ويكتشف فيما بعد أن لهم حياة خاصة تتناقض مع ذلك تماما حتى أن بعضهم قبض عليهم يرتادون سراً أماكن لنساء غير سويات.
أضف لذلك الفضائح الكثيرة التي تظهر في ممارسات بعض الكنائس والأديرة بدءاً من اختلاس الأموال أو التعدي على الأطفال وهي ممارسات لم ينجُ منها الفاتيكان ذاته. وقد هزت واشنطن مؤخراً فضيحة لكاهن يهودي كبير وجد يتجسس على النساء في كنيسة وهن يسبحن عاريات في الماء المقدس في الكنيس عبر كاميرا خفية.
عموماً هذه التناقضات ليست هي القاعدة، ولكن تكرارها يعد كافياً لطرح التساؤلات التي طرحتها أعلاه وهي تعايش أكثر من منظومة أخلاقية في عقل الفرد قد تتناقض بعضها مع البعض الآخر أحيانا.
فنحن نعجب عندما نرى من عليه مظاهر الصلاح ويقف خطاءً أمام المسجد ليؤدي الصلاة، أو يقطع الإشارة في الشارع الذي يليه بعد خروجه منها، ولا يري في ذلك تناقضاً. أو ذلك الذي يوسخ الشارع ويتصدق على رجال النظافة، أو من يدعو الناس للحسنى ولا يطبق ذلك مع أهل بيته، أو من يجمع دية ليخرج قاتل ليحصل على نسبة منها، أو من يدعو الناس للزهد ويعيش في حالة بذخ زائد، أو في أسوأ الحالات من يؤتمن على مال عام ويفرط فيه.
هذه الأمور استدعت انتباه بعض علماء النفس والتربية فقاموا بتجارب ليوضحوا الفرق بين تأثير الوعظ فقط وغياب الوعي على أخلاق النشء في بداية تكّون حياته وتشربه لنظامه الأخلاقي؛ بين التأكيد على جانب العبادات وإهمال تطوير نظام الأثرة لديه بشكل واعٍ. فأتوا بأطفال وأدخلوهم قاعة بها زر مرتبط بالسقف وطلبوا منهم ألا يضغطوا على الزر لأن في ذلك عواقب وخيمة. ووضحوا للفريق الأول بأن ضغط الزر سيعرضهم لعقوبة شديدة من المسئول عن القاعة، أما المجموعة الثاني فشرحوا لهم أن عواقب ضغط هذا الزر قد تؤثر على زملائهم بشكل سلبي مما قد يعطلهم، وأنه لو ضغط غيرهم عليهم تضرروا هم، وطلبوا منهم أن يتخيلوا أنفسهم مكان المتضررين. تركوا المجموعتين فوجدوا أن بعض من هددوا بالعقاب ضغطوا الزر بمجرد أن أخبروا بغياب الحارس وألا أحد يمكن ملاحظتهم. أما المجموعة الأخرى التي وعيت بعواقب سلوكهم على الآخرين فقد امتنعت ذاتياً عن ذلك لقناعة منها بضرره دونما حاجة للتأكيد على العقاب.
هذه التجربة قد تعني الكثير لنا ولأسلوب تربية أطفالنا الذي يلعب الوعظ فيه دوراً أكبر من التوعية. فنحن نعظ أبناءنا مبكراً بضرورة الصلاة والصوم وغيرها من أركان ديننا القويم لأن من تركها سيذهب للنار، ولذا فهم يؤدون الفروض جميعا كاملة خشية عقاب الله في اليوم الآخر، وهذا أمر مهم لإقامة أركان هذا الدين القويم ولكننا لا نربط وعظنا بالدرجة ذاتها بتوعيتهم بضرورة وكيفية ارتباط ذلك بسلوكهم العام ولا بأهمية الإيثار والتكافل في حياتهم الذي لا يرتبط بعقابهم بالدرجة ذاتها بقدر ما يرتبط بالتعايش. فيعيش البعض منا حالة انفصام بين التمسك بأمور الدين وبين العيش بمكارم الأخلاق التي هي من صلب الدين.
وقد دخلت في جدل ذات مرة مع أحد من ممارسي الصيد الجائر للحيوانات والطيور، وكان ممن يحرص على أداء الفروض والنوافل كاملةً فكانت حجته أن الله أحل الصيد في البر والبحر ولكنه فشل في إدراك ضرر سلوكه المتهور على البيئة؛ لأنه لا يعرف الدورة البيئية لهذه الطيور ولا أهمية بعض الحيوانات للتوازن البيئي، بل أنه ينكر وجود مثل هذا التوازن، وفي نهاية الأمر قال بأن الله قادر على أن يخلق مباشرة الملايين منها وهذا أمر لا جدل فيه، ولكن الله خلق الكون وطلب منا الحفاظ عليه وصيانته، والرسول قد قال: في كل كبد رطبة أجر.
فهذا الرجل نتيجة لنقص وعيه لا نقص في وعظه غير قادر عن الربط بين إباحة الصيد وأسبابه والإفراط في قتل الأكباد الرطبة دونما سبب أو حاجة.
ويفترض فينا كمجتمع مسلم أن نكون من أكثر الشعوب نظافةً ورفقاً بالبشر والحيوان والنبات والحجر، وكذلك التمسك بصغائر أمور الأخلاق قبل كبيرها، وألا يكون سلوكنا أحيانا متناقضا بهذا الشكل، فليس كل ما لم تصدر فيه فتوى صريحة مباحا. وليتنا نقرن التوعية مع الوعظ لأن في ذلك صلاحا كبيرا لمجتمعاتنا. فما نحتاجه هو الانضباط السلوكي عن وعي ورغبة وليس خوفاً من العقاب أو رهبة.