ياسر حجازي
1
ليس سهلاً أن تقرأ مقالة أو كتاباً ولا يتوقّفك استبداد الكاتب في عرض أفكاره وملاحظاته ونتائجه، بل وأسئلته أيضاً، فليس كلّ سؤال غايته البحث والمعرفة، فكثير من أسئلة الوهم محصورة في إجابات جاهزة، هكذا لا يكون السؤال سؤالاً، إنما يراد له أن يكون عصاة استبداد في فرض إجابة بعينها؛ ليس سهلاً أن تخلو كتابة من استبداد ما طافحاً أو متوارياً بصيغة أو أخرى، وقد يتوقّفك هذا الاستبداد، إن كنت واعياً لهذا الالتباس الذي يتلبّس الكاتب - أيّ كاتب، فلا تخلو مقالة أو كتاب من بصمات استبداد المؤلف - الكاتب عبر تقديم نتائجه بوصفها حقائق مطلقة، وكأن حاله يقول: «أنا أكتب.. أنا مستبد».
2
ليس سهلاً على الكاتب أن يكون ديمقراطياً في كتاباته، وإن كان في حواراته وجدله مع خصومه على درجة عالية من الالتزام بأصول الحوار والاحتكام لمنطق العلم القابل للنقد والبحث، فالكتابة إذا كانت ديمقراطية سقطت في التناسخ فيما تحبّ الجماهير سماعه: وما تحبّ الجماهير سماعه: «بسيط، قليل، محدود، مكرّر، مألوف....»؛ وما أسوأ الكتابة إذا كان هذا حالها الوحيد؛ بل، لذلك أن يكون الكاتب ديمقراطياً في كتاباته معناه أن يكتب بقلم الأكثرية وحبر التسليم والتقرير وتفريخ الحقائق الداجنة التي تألفها الناس.
الكتابة في جميع حالاتها فعل استبداد، تستبدّ بالكاتب وهو بدوره يستبدّ بقارئه، وإن كان بحثاً يُلقي الأسئلة؛ تبقى القراءة وهي الموجدة لما هو موجود أصلاً، لكنّه، لا يكون دون فعل القراءة، تبقى هي الحكم بين الوهم والعلم!
كيف تقرأ؟ كيف تفهم هذا المستبدّ بك أو ذاك؟ وإلى أي درجة ترضى استسلامك لهذا الذي دأبه أن يستبدّ بك ويستخفّ بك؟ أمْ تستعين بهذا العقل و»تفلتر» ما يدخل عبره وتصفيه وتنقيه وتنفيه وتبقيه...
المسألة بين يديك أَيُّهَا القارئ: أنت المثَقّف.. أنت صانع الأسئلة.. أنت موجدُ هذا الكتاب أو ذاك بفهمك كيفما كان...
لا يغرّك أَنِّي صاحب الحبر هنا، لا يغرّك أيّ كاتب، فلعلّ مخزونه المعرفي وقدرته التحليلية لا تتعدّى ما ألّفه، وحسبه، بالكاد رصيداً من القراءة لا يوازي رصيدك وفهمك وتحليلك، أو حسبه قدرة في التنظير وعجز في التنفيذ؛ القارئ هو الرهان، هو المعوّل عليه، أمّا الكتابة، فهذه اللعنة من الخداع إلى درجة تأخذ بصاحبها إلى حيث تريد وغالبا مرادها عبثي، وخداعها: أنّها توهم للكاتب أنّها تحت أمره وطوعه وهواه، وهي في حقيقة الآمر مستبدّة به وهو غافل.
وأنت أَيُّهَا المستبدّ الكاتب - صاحب الحبر الآن - الْقِ أسئلتك.. إجاباتك ..حقائقك.. شكوكك، لكنّ تذكّر جيداً: أنَّك أوّلُ ضحايا استبدادك!
3
في كل حدث يقع هنا أو هناك، (وهذان الظرفان يحتملان كلّ بقعة في العالم تصل أخبارها إلى مسمع الإنسان السعودي أو العربي) هذا الإنسان الذي تظهر الإحصائيات أنّه بطل منافس ثرثار في مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات، الأكثر استخداماً؛ يقول له موقع تويتر مثلاً يكفي كلمات محدودة ً للتواصل، فيكتب المستخدم ما شاء له صبره ووقته، وما أكثر أوقاتنا.
وهؤلاء العباقرة في الاستهلاك والاستخدام: من إنجازاتهم أن حوّلوا هذة المواقع إلى قاعات للمحاضرات وقاعات للمحاكمات وغيرها، أمّا المواضيع التي يناقشونها فهي تلك التي كانوا يكتبونها على لوح الطباشير.
ما أسباب تعلّق هؤلاء الساكنين في مواقع التواصل الاجتماعي بإقامة دائمة؛ ما هذا الحرص أن يقدموا آراءهم في كلّ شيء، يهمم أو لا يهمم، بدءاً من عمل الباستا وليس انتهاء بتخصيب اليورانيوم.
4
هل فقدت الكتابة قيمتها لانتشارها؟ أم أنّ القيمة الممنوحة للكتابة هي افتراض في عقل الكاتب، والتاريخ لا ينتظر رأياً من هذا أو فلسفة من تلك!! والأسئلة كثيرة حتى لا أبدو بحصرها مستبدّاً أكثر ممّا أبدو حتى الآن.
هل فقدت الكتابة تأثيرها على الإنسان، بصفة عموميّة وعالمية، لخسارتها عامل الندرة - أحد العوامل المؤثرة على القيمة! حيث إنّ شبكة النت: المنتديات، الصفحات الشخصية - البلوج - المدونات، مواقع الشات والتواصل، صناعة التطبيقات والأجهزة الذكية اللوحية، الكمّ الهائل من الأخبار التي تصل إلى الإنسان بشكل مستديم بإرادته أو غصباً عنه، كلّ هذا - وغيره - حوّل الإنسان، من طبيعته أنه «ناطق» إلى «إنسان كاتب»، على دلالة الطبيعة، وليس الاختصاص، أي كما أن الإنسان ناطق بطبيعته إلا وقوع خلل ما، كذلك تمضي الكتابة لتصبح عادة وطبيعة في الإنسان إلا لخلل ما، أو بقايا عقل تمنعه من الانجرار لهذا الهوس الإنساني على جماله ومنافعه، لكننا - للأسف الشديد - لا نمارس شيئاً وفقاً لما صُمم لأجله، بل نستخدم الأشياء بطرق طفولية نزقة، عادة ما نخرّبها أو نستخدمها في الأذية.
فإن كان القرن العشرون وقع تحت ارتباط الواقع اللصيق بالكتابة وإنتاجاتها، فكان الإنسان تحت تأثيرات كتب قرأت الواقع بما فيه الإنسان: نفساً وإحياء واقتصاداً وسياسة، فوجدت العالم يتأثر بكتابات آدم سميث في ثروة الأمم، وكارل ماركس وفريدريك إنجلز في رأس المال، وداروين في أصل الأنواع، وكتابات فرويد في الأحلام والطوطم والتابو وغيرهم.. لكن القرن الواحد والعشرين، ليس قرن الكتابة بمفهومها النخبوي القديم، بل تلاشى هذا المفهوم تحت شيوع العلم والمعرفة، بل هو قرن البرمجة، قرن ستيف جوبز وبيل جيتس وغيرهم، وهذا الذي يجعل لهؤلاء الأسماء صدارة القيمة العالمية بينما الكتّاب إلى زواياهم المعتمة، وأبراجهم العاجية؛
* ابقوا هناك، إن العالم الآن في اتجاهات أخرى بعيدة عن هذه الصومعات والمراجع والغبار.
ما أكثر الغبار على هذه الرفوف المكتظة بالكتب!!