د. حسن بن فهد الهويمل
حديثي العتابي، إن كنت من المعتبين، ينصب على أحداث جِسَامٍ، وأشخاص مَهَرةٍ نسْيان شيء منها مخل بالأهلية، مربك للعملية.
من المؤكد أن [كيسنجر] فاعل مهم، في كل ما يجري في وطننا العربي من أعمال مصيرية.
وقراءته على حقيقته خير معين على معالجة الأوضاع باحترافية، والتعامل معها بحكمة. ولاسيما أننا نخوض وحل مكائده، ونَسُفُّ مَلَّ مُضْرَماتِه، ومضمراته.
المعضلات الكبرى، والموجات الطاغية، التي ركبها [كيسنجر] لتمرير مشروعه في تفكيك العالم العربي تمثل في:- [الدعاية]، و[الإعلام]، و[مراكز المعلومات].
وكيف يتأتى الوقوف المتكافئ ضد [مشروع كيسنجر]، ومن هم على شاكلته، والأمة العربية لا تمتلك الإعلام المضاد، ولا [مراكز المعلومات]. وإنما تتقن فن [النقائض] فيما بين نخبها، وكياناتها.
لقد طوق الصهاينة الرأي العام الأمريكي بالضخ الإعلامي المستنجد بعلماء النفس، والاجتماع، والقانون، والسياسة.
حتى لقد أصبحت صورة الإنسان العربي لدى دول الاستكبار من أقبح الصور، وأشدها إثارة للاشمئزاز.
وعلى المرتاب أن يُراجع كتاب [صورة العرب في عقول الأمريكيين] للدكتور [ميخائيل سليمان]. و[صورة العرب والإسرائيليين في الولايات المتحدة الأمريكية] للدكتورة [نادية حسن محمد]. ليرى حجم الفجيعة، وهَوْلَ الموقف.
[الصهيونية] تمتلك دعاية منظمة، وإعلاماً طاغياً. وهي تلح على تشويه صورة العربي في الصحافة الأمريكية، وإلصاق أبشع الانطباعات، وخلق قطيعة، لا رأب لصدعها.
ولصديقنا الإستاذ الدكتور [غازي عوض الله] اهتمام مَعْرِفي في هذا المجال جَسَّده في كتابه [العربي في الصحافة الأمريكية].
خُطَطُ [كيسنجر] تحتاج إلى مهاد، وأجواء ملائمة، تهيء لها فرص النفاذ إلى أعماق القضايا. وهو ما لم يستوعبه المناوئ العربي.
ما لم نفكر فيه، أن في أمريكا كفاءات علمية شريفة، وأقليات عربية، وإسلامية تتوفر على مواقف نبيلة، لا تقبل الحيف، ولا يروق لها الإضرار بالمصالح الإنسانية، لحساب المصالح الخاصة.
هذه الكفاءات المهمشة من قبل النخب العربية، ومن أصحاب القرار الأمريكي، تمارسُ الرفضَ المعلن عبر الكتب، والمقالات، كما يفعل اليهودي [تشومسكي]، أو تقنع بالاشمئزاز، والحياد السلبي.
فأمريكا دولة تكتظ بالمتناقضات، وإنسانها مرتهن للدعاية، والتزييف. وقد لا يعرف حقيقة الممارسات السياسية، غير السوية، وغير الأخلاقية. ومن ثم لابدَّ أن تُقْرأ أمريكا من الداخل. بمعنى أن نقرأها، لا أن نقرأ عنها.
وواجب الإنسان العربي ألا يَنْجَرَّ لمثل هذه الزيوف المخابراتية. وأن يفرق بين أمريكا العِلْم، والمُثُل. وأمريكا الاستبداد، والتسلط.
لا يُطلق الثناء، ولا يبخسُ الناس أشياءهم. المسلم مطالب بالعدل، حتى مع الأعداء. وقِدْماً حدَّدت في مقال سلف أمريكا التي نريد، وأمريكا التي نكره ونتحاما.
إننا أمام تقلبات سياسية، تمارسها المؤسسات الأمريكية لا تضع أهمية للعلاقات التاريخية بين [المملكة] و[أمريكا]، وهذا المنعطف الخطير يتطلب الحلم، والأناة، وبعد النظر، والحيلولة دون استغلاله للوقيعة.
فأمريكا دولة لا يُستْغنى عنها، ولا يُستغنى بها. والموجفون عليها بما فعلته مع صنائعها الذين أجهزت عليهم، فيه مبالغة مخلة بالمصداقية. كما في كتاب[كيف تبيع أمريكا أصدقاءها].
وفي ظل هذه المبالغات، لابد أن نعرف [الصقور]، و[الحمائم]، و[المبادئ]، و[التوجهات]. ونتقن أسلوب التعامل مع الأشخاص، والوقوعات، وطوارئ المصالح العارضة، والقضايا المصيرية.
كان [العراق] الممزق شر ممزق منطلق الصقور. وفَشَلُ المَشروعِ المخيف، خَلَطَ الأوراقَ، وأضَلَّ الراصدين.
[الصقور] يقودون المتعنصرين. وأي تجربة عربية أمريكية لا تستحضر مؤشرات العنصرية المعادية للعنصر العربي، لا يمكن أن تجتاز بقراراتها إلى شاطئ السلامة.
وليست العنصرية مرحلة تاريخية، بحيث يمكن تجاوزها. إنها امتداد، وهيمنة، حتى عند [الليبراليين] المتوقع منهم تصحيح الرؤى المتخلفة، والهمجية المُتَبدِّية.
المتورطون في وحل هذه الخطيئة من الأمريكان يواجهون [عرب أمريكا] قبل الحادي عشر من سبتمبر، وبعده، كما يواجهون [الأمة العربية] ودول الشرق الأوسط.
والإعلام الأمريكي حين يعالج قضايا العرب في الداخل، أو في الخارج، أو في كليهما، لا يكون العنصر العربي طرفاً حاضراً في الحوار، فضلاً عن أن يكون متكافئاً.
وهذه الممارسات الخاطئة تهيء الأجواء الملائمة لصناع السياسة في أمريكا، أمثال [كيسنجر] الذي يحلو له دائماً ربط تقويم العنصر العربي:- بالمقاومة الفلسطينية. وبالحِسِّ الإسلامي المراوح بين [الأدلجة]، والأسلمة المسالمة. وبما يُضَخُّ من تشويه مُفْترى على الإنسان العربي، عبر وسائل الإعلام، وفي الروايات، والقِصَص الموظفة لتشكيل الوعي الأمريكي.
في كتاب [العنصرية المعادية للعرب في الولايات المتحدة الأمريكية] لـ[ستيفن سلايطة] إحصائية مُفزعة، عما تضمنه ألفٌ وسبعمائة كتاب للأطفال فقط، المؤلفة بعد الحادي عشر من سبتمبر من إضافة صفات [الأشرار، الكذبة، الطمع، الخيانة، الغدر، القاتل، الثعبان، القذر] إلى العنصر العربي. والمؤلف يعد ذلك جزءاً من الثقافة الطاغية في أمريكا.
من هذه عَبَّ [كيسنجر] حتى تَضلَّع. ومارس ما يسمى بـ[السياسة السرية]، و[غير القانونية]. والتضليل على كافة المجالس النيابية، والهيئات الدولية.
وكيف يتأتى منها الحيف، والجور، والظلم، وهي تباهي بـ[تمثال الحرية]، وتسوس ولاياتها بالعدل، والحرية، والمساواة. وتدس أنفها في مشكلات العالم باسم الحرية، وإشاعة [الديمقراطية]، وتجوب المحيطات بحاملات الطائرات، تحت هذه الذرائع.
وحين لا [يتأمرك] الناسلون من صناديق الاقتراع، تَفتح أبوابَ الثكنات، لتأتي بعسكريين صنعتهم على عينها.
ولأن [كيسنجر] أحد صناع السياسة [الكواليسية] الأمريكية، فإنه جادُّ في تلمس بؤر التوتر في العالم الثالث.
ومنها معضلة [الأقليات]. فتراه يوماً مع التذويب، ويوماً آخر مع إرادة البقاء. ولك أن تستعرض حركات [الأكراد]، و[السيخ]، و[التأميل]، و[إقليم الباسك]. وغيرها.
وفي المطالبة بـ[التحرر] تجد أنفه مدسوساً في مشكلات [السلفادور]، و[نيكارغوا]، و[كمبوديا]، و[الفلبين]، و[البيرو]، و[كولومبيا]، و[الصومال] و[السودان]. وغيرها كثير.
وهو إذ لعب على هذه التناقضات، فقد لعب على تناقضات الإسلاميين.
ولو قُرِئَت موسوعة الحركات الإسلامية في الوطن العربي فقط، لشاب لها رأس الوليد. إنها بهذه المأزومية مرتع خصب للاعب ماهر، بوزن [كيسنجر].
لقد تصدعت لحمة المفكرين الإسلاميين بين عدة مبادئ مَعْرِفية، وسياسية، وحزبية، وصَدَقَت فيهم آية {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
لقد مزقهم تعددُ المفاهيم حول [نظرية المعرفة]، و[مفهوم الدين] و[عالمية الإسلام]، ومراوحة العالم عندهم بين [الجاهلية]، والدولة [الدينية] و[المدنية]، ومفهوم [الجهاد]، و[السلام]، و[الحاكمية]، والموقف من التناقضات، والمراوحة بين الصدام، والحوار، والاستيعاب، والاستبعاد.
لقد واكبه حَقَدةٌ على الإسلام. أمثال [فرانسيس فوكوياما] الذي شغل الرأي العام العالمي بكتابه المتعالي [نهاية التاريخ والرجل الأخير]، والذي اعترف -فيما بعد- بخطأ رؤيته.
ولكنه لما يزل ينال من الإسلام، مستبعداً أن يكون الإسلام ربانياً بقوله: [هل يمكن لأي إله أن يأتي بإسلام راديكالي]، كما وصف الإسلام بالقوة المدمرة.
[فوكوياما] واحد من سلسلة صدئة، تنال من الإسلام بمقترفات الإسلاميين. الأغرب من هذا ما دفع به إلى المشاهد الفكرية، والسياسية، من رؤية غرائبية في كتاب مماثل لما سلف، [مستقبلنا بعد المرحلة البشرية] الذي يدعي فيه نهاية الطبيعة البشرية في أعقاب ثورة [التكنولوجيا] الحيوية. وهو نقض لنظريته التي خادع بها العالم، وامتطى صهوتها اللاعبون السياسيون أمثال [كيسنجر].
والمتنخوبون المتعالمون في عالمنا، يخوضون معتركات الأقران، وهم لم يتصوروا ما يحكمون عليه، والقاعدة الأصولية:- [الحكم على الشيء فرع عن تصوره] تؤكد المعرفة.
والمجربون يؤكدون على قراءة الأشياء، وعدم الاكتفاء بالقراءة عنها. لتتحقق المصداقية، ويقوم العدل.
في ظل هذه الظروف العصيبة العصية لابد أن نعرف الآخر على حقيقته، ولكن بعد معرفة الذات على حقيقتها. ولا نكون مهتاجين عُزلاً من المعرفة، والوعي.
وذلك ما يمارسه بعض الكتبة المتصدرين لتشكيل وعي الأمة. وهم طبول فارغة، وطَحَنَةُ قرون.