ياسر حجازي
1
تومي مقولة: «قتله طموحه» في قصص الشعر الأدبي إلى أبي الطَّيِّب المتنبي، وقصيدة «لا تعذليه..» المنسوبة لشخصية مجهولة تدعى (ابن زريق البغدادي)، ويمكن إضافة القصّة المختلقة لقصيدة يتيمة الدهر وما حلّ بالشاعر المؤلّف والشاعر السارق وكلاهما قتلا عبر طموحهما بالزواج من الملكة؛ والقصص كثيرة على وقائعها أو اختلاقها..
.. فالواقع قد يكون أكثر جنوناً من الخيال، وبالتالي لا يمكن حصر المقولة في قصة دون أخرى، فأين طموح شخصية ابن زريق في طلبه للرزق -وهو ضرورة إنسانية دونها الطموح- من طموحٍ قاتلٍ أودى بالحلاج والمتنبي والحمداني وغيرهم من الشعراء الذين كانت لهم طموحات سلطوية بطريقة أو أخرى. وأطرح اسم الحلاج هنا، وفقاً للبحث الذي قدّمه محيي الدين اللاذقاني في كتابه: (ثلاثيّة الحلم القرمطي)، والذي عرض عبر قراءة في مصادر تاريخيّة متنوّعة حجّجاً عديدة: أنّ الحسين بن منصور الحلاج (شهيد المتصوّفة) هو الحسين بن منصور الأهوازي (قائد الثورة القرمطيّة ومؤسّسها بمعيّة حمدان بن الأشعث القرمطي) وبالتالي فإنّ صلبه وإعدامه وحرقه لم يكن تحت قضيّة دينيّة، بل بوصفه زعيم الانشقاقين المتمرّدين على السلطة العباسيّة، وأحد مؤسّسي أخطر حركة انشقاق مسلّحة في التاريخ العربي-العبّاسي.
هؤلاء عيّنة من تاريخ طويل من العنف بين الشعراء والأمراء الأمويين والعباسييّن وما تمّ بينهما وفيهما من دويلات هامشيّة هنا وهناك لم تكن تخلو بطبيعة الحال من صراع بين الشعر والسلطة حتّى المعارضة منها، ذلك أنّ علاقة الشعر العربي القديم، -أو تحديداً- التماهي بين الشاعر والنزعة السلطويّة كانت جزءاً من اللعنة التي تلبّست هؤلاء الشعراء في طموحهم للسلطة، ولعلّ في هذا المدخل: (الشعر والسلطة، الشعر والعنف) تحريض أكثر لقراءة أسباب تصفية الكثير من شعراء العرب قتلاً، فالاستسلام فقط لسبب «الخوف من الكلمة وأثرها» استسلامٌ يبتر الكثير من السياقات: هل هذه الكلمة خرجت من متصوّف (متدروش) من عامّة الناس، أم خرجت من فمٍ شاعر يسعى إلى السلطة ويرمي إليها وراء كلماته وطلاسهم؟
2
ليس هذا مقصد المقال وإن أوجبتني مقولة الاستهلال (الذي أخذ ثلث المقالة) والجنوج باتجاه الشعر والسلطة والعنف (باستطرادٍ كلما سعيتُ للتخلّص منه أو تخفيفه عاد إلى سياقات مقالاتي)؛ فالمقصد هذا المخلوق العجائبي المنعوت (بالعربي) وطموحاته ويأسه وغروره وضعفه، حتى لكأنّ معظم العرب على طموح أبي الطيّب، على طموح الشاعر العربي القديم بما يتلبّسه من أوهام جنّ وعبقر ونفوذ على قبيلته بما يزعمه في نفسه من مَلَكةٍ تجعله مميّزاً والأولى حكماً بالزعامة.
هل لدينا نحن العرب طموح قاتل؟
كأنّ لوثة الشعر في نفوسنا قد جبلتنا على طموحات تبدأ بالخيال وتنتهي عنده، وبينهما تفتك بالشاعر وبأهله ومحيطه، فهذا الشعر المسؤول عن عجزنا في فهم الواقع مسؤولٌ أيضا عن طموحاتنا الموهومة -وإن لم نكن شعراء- نتساوى معهم، مجبولين على نزق لا يُفضي إلى سلمٍ في أرواحنا، مجبولين على طمعٍ للسلطة، للقداسة، للاستبداد، لثباتٍ خياليّ يعجز عن الثبات في الواقع.
هل لدينا طموح مقنع؟ له سياقاته الواقعية القابلة للتحقّق؟ أم مجرّد مخلوقات مشاغبة استهلاكية شرهة استعراضية تعيش يومها كيفما اتفق، ولا تملك هويّة ورؤية لليوم والغد؟
هل تمجيد القدماء واللغوييون للفعل الماضي ومحاربة الفعل الحاضر وطمس مسمّاه على حساب مسمّى شكلي طلاسمي (مضارع: تسمية تدلّ على دلالات مضحكة إذا ما قارنتها بمقصد المصطلح/الحاضر)، كان نتيجته غياب مفهوم الحاضر عن العقليّة العربيّة التي تمجّد الماضي وأفعاله وتتهرّب من الحاضر وتزوّر وجوده ومسمّاه؟ هل من علاقة؟
3
يقدّم (حسن حنفي) في كتاب (ما العولمة؟) الذي ضمّ أوراقاً له مع (صادق جلال العظم)- تصوّراً لمواجهة العولمة ينفي فيه أيّ احتمال لنشوء قوّة قطبية بمواجهة القطبية الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي سوى قطبيّة العالم العربي الإسلامي ولذلك تنصبّ عليه المؤامرات والحصار والضرب. (ص/45)، ورغم أنّ عنوان ورقته:(العولمة بين الحقيقة والوهم)، إلاّ أنّه انساق وراء الوهم تحت تأثير الطموح القيادي الموهوم؛ ومن اليسير إثبات أوهامه -وكلّ من لديه التصوّر ذاته- على ما فيه من أخطاء يقدّمها على أنّها مسلمّات: (يتحدّث عن العالم العربي بصيغة المفرد، هل نجد صعوبة حتى نقتنع بوهم هذا التصوّر، فلا وجود لهذه الدولة التي يتحدّث عنها بصيغة المفرد. يختصر العولمة في القطبية بينما هي قائمة على ذوبان القطبيّة. يعتمد على نظرية المؤامرة، وبالتالي يبرّأ كلّ ساحات الدول العربيّة من تحمّل تبعات نهضتها وتنميتها وحقوق تقرير مصيرها) وهذه الأوهام -المليئة في خطاب مثقّف أكاديمي- منتشرة بغلبة داخل الدول العربيّة لدى شرائح مختلفة، كأنّ الغلبة العامة للوعي العربي ما زالت تحت سيطرة الوهم؛ وأنت لتعجب من عقلٍ يدّعي طموحاً وإذ به متأثّراً بالمظلوميّة والشكوى وانتقاد الآخرين واتهامهم أنهم سبب فشله.
ينتظر أمريكا مثلاً، أن تفعل ما يتوجّب عليه فعله، كما انتظر ستئمائة عام حتى يجيء البريطانيون والفرنسيون ويفعلون ما توجّب عليه فعله من زمن، ثم لم تكن النتيجة على هواه؛ لماذا؟ لأنه لم يقم بالفعل. وهذا ما يجب على العربي إدراكه اليوم: أنّ انتظار أمريكا للقيام بالفعل نيابة عنه لا يوجبها أخلاقياً ولا سياسياً، وخاصة إذا لم يكن من مصالحها أن تقوم بهذا الفعل لصالحنا لطالما صاحب المسؤولية والأجدى بالقيام بهذا الفعل قد تقاعس عنه.
4
ماذا لديك أيّها العربي لهذا الوهم؟
ماذا لديك أيّها الإسلامي-السياسي لهذا الوهم؟
ألأننا انتزعنا مكانة في قيادة التاريخ فترة من الزمن؟ وهل الضمير المتّصل هاهنا كاف لجعلنا «واحداً» في الماضي أو الحاضر؟ بينما يكفي التفحّص التاريخي حتّى يدلّنا على الكثير من شعوب العالم كانت خاضعة تحت كيان واحد بالإكراه تبعاً لطبيعة حركة التاريخ حينذاك، لكن ذلك لا يعني أنّها «واحد» ما لم تحدّد حقّ تقرير مصيرها بنفسها.
هل لعنة أم نعمة أنّ أجدادنا فاتحون وغزاة ومُستعمِرون؟
• لا أقول: (إنّ كلّ طموح وهمٌ)، هناك طموح للوهم وهناك طموح للعلم؛ فانظرْ وتأمّلْ إلى أين يمضي بأصحابه هذا، وإلى أين يمضي بأصحابه ذاك!!