عبد الله باخشوين
أعترف أن كل ما كتبته عن شخصية ((الأم)) في قصصي.. قمت بإسقاطه على شخصية أمي ((حميدة)).. دون أن تكون لها علاقة بتفاصيله التي وردت في نسيج ((النص)).. لكني أستلهم من ((حميدة)) صلابتها.. وقوة إرادتها.
عندما ولدت أخي ((عمر)) -رحمه الله-.. وأختي ((أسماء)) من بعده.. كانت تقوم بتوليد نفسها دون مساعدة من أحد.
تلوب على نفسها في البيت متنقلة من مكان الى مكان.. ثم في الوقت الذي تراه مناسباً تقول لأبي:
- خذ عيالك.. مشيهم وشفلك صرفة فيهم اللين بعد المغرب..؟!
فيجمعنا بهدوء.. يحمل ((محمد)) أصغرنا.. ونتبعه نحن الثلاثة ((حسن.. وفاطمة.. وأنا)).. يتجه بنا إلى ((برحة العباس)).. وبعد أن يشتري لنا ((حلاوة لوزية)) نجلس على أحد مراكيز ((قهوة نعمان الحاج)) لنتابع كل ما يدور في ((البرحة)) من صخب.
عندما نعود نجد ((الطفل)) مقمطاً.. وهي خلف ((الوجار)) تعد لنا طعام العشاء.. كأن شيئاً لم يكن.. يجلس أبي متجاهلاً صخبنا ونحن نحاول فك قماط الطفل ليسأل دون اهتمام:
- ولد والا بنت..؟!
طبعاً.. أمي ((حميدة)) داية.. أو طبيبة شعبية متمرسة ولد على يدها كل من هو في سن أبنائها ورضع لبنها قبل أن يتذوق طعم حليب أمه.. وولد على يدها كل أبناء بناتها.
عندما زارتني مرة، وكانت ((مريضة)) استأثرت بها لعدة أيام.. صورتها خلالها وأجريت معها (( لقاء صحفي)) نشر في مجلة ((استجواب)) وفي عدة صحف عربية وكتبت عنه جريدة ((الشرق الأوسط)).. رغم أنه أسوأ حديث صحفي أجريته في حياتي.. فقد تداخلت مشاعري وعواطفي وحالت دوني وكتابته بذلك النوع من الاستقلالية الذي يفرضه العرف ((الصحفي)).
((حميدة)) في غياب أبي كانت صديقي الوحيد.. وفي الوقت الذي منحت فيه بقية ابنائها ضعفها وعطفها وحبها ورعايتها لم تحرمني منها.. لكنها حرصت على جعلي أحاول أن أرتفع لمستوى عقلها.. وفي حين كان كل ما بينها وبين إخوتي تحركه عواطفها.. كان ما بيني وبينها يدور في كل تلك المنطقة الشاسعة بين العقل والقلب.. وتكونت بيننا صداقة قوية جداً أخرجتني من كل أطوار الطفولة منذ أدركت وأنا في نحو العاشرة أنها تحدثني كرجل وليس كطفل.. إلى أن وصلت إلى مرحلة من الثقة التي جعلتها تحدثني في كل شيء دون تحفظ أو خجل مدركة أني أستوعبها تماماً وأنا في نحو الرابعة عشرة.
في عام 1977 زارتني في ((بغداد)) وكانت مريضة أيضاً.. وبعد أن تشافت شاهدت بالقرب من مكان سكننا ((مشتلاً زراعياً)).. فكان أول ما طلبته مني أن أأخذها إليه لنشتري ((لقاح نخل)).
وعلى - عادتي معها - أتفرغ لها بعد صلاة العصر إلى أن تصلي العشاء وتنام... طبعاً سألتها عن ((لقاح النخل)).. فأخبرتني أنها تخلطه مع كذا وكذا ((طبعاً نسيت ما هي)) وتستخدم بطرق مختلفة مع النساء اللواتي لا ينجبن أو تأخرن في الإنجاب.
تحدثت عن العقم بطريقة غريبة.. قالت:
- ((عقم الرجال لا أمل في شفائه بالطب الشعبي.. لأن الرجل لديه أعضاء داخلية وأخرى خارجية وأعصاب وفقرات وغضاريف يمكن لأي منها أن يكون السبب.. أما المرأة فكل بنائها داخلي.. وهي أشبه بـ((البقشة)) أو ((صرة القماش)) المربوطة بأحكام الخالق جلت قدرته.. وعلى الطبيبة الخبيرة أن تعرف ما بداخل ((الصرة)) وهي تتحسسها من الخارج وتستطيع أن تفرز وتعرف ما تلمسه.. فإذا صرخت المرأة أو تألمت عرفت موطن الداء.. وإذا لم تستجب عليها أن تستخدم محركات ومحفزات من خلطات وأدوية هي كذا.. وكذا لتنظيم الدورة الدموية والعادة الشهرية.. وتستخدم كذا.. وكذا في أيام معروفة ومحددة للتعامل مع ((الرحم)).
ولكن من الصعب علاج المرأة التي تريد الحمل بعد تجاوز سن الأربعين.
وطبعاً يتخلل الحديث حكايات عن النساء.. والحالات الصعبة التي مرت بها.. والحالات التي فشلت في علاجها.. وتأخذنا حكايات الحياة.. وأنا أجلس أمامها كطفل صغير.. ولا شيء في الدنيا يعادل تلك المتعة والنشوة التي أشعر بها.. إنها حالة غريبة.. قد يصلك خلالها يقين بانك لن تأسف على الحياة لو أنك مت في حضرتها غارقاً في فيض كل ذلك الحنان.
مثل هذه الحالات هي التي تؤثر فيك.. وبلا وعي منك تدفعك لأن تستدعي هذه الشخصية أو تلك لعملك القصصي أو الإبداعي.
وأذكر أن الفنانة المبدعة ((عبلة كامل)) في مسلسل ((الحاج متولي)) من بطولة نور الشريف تقمصت شخصية امرأة شعبية تقليدية من الطبقة المتوسطة أثارت الدهشة بشدة جمالها.. وكان أن سُئلت كيف ابتكرت تلك الشخصية فقالت ببساطة شديدة ((عمتي)).. ((هي دي عمتي)).. رحتلها البيت وأخذت ملابسها وزينتها.. وقلدت حركاتها وطريقتها في الكلام)).
بالعودة الى ((حميدة)).. فقد كفت عن أن تكون أمي منذ زمن بعيد.. وتحولت إلى ((رمز)) يجسده ويحييه كل أولئك النساء الخمسينيات والتستينيات اللواتي نراهن في الأسواق الشعبية خلف ((البسطات)) الفقيرة.. وأولئك اللواتي نراهن وعلى رؤوسهن ((قفف)) المقاضي يسرن متثاقلات.. فأقول: ((كل هولاء أمي)).. وأعود وأقول لي:
- كيف حدقت في عين أمي ولم أرني...؟!