د. حسن بن فهد الهويمل
عندما قَطَعْتُ بِالسَّقُوطِ الذريع لكافة المؤسسات، والهيئات الدولية. بسبب دورانها الذليل الاستسلامي في أفلاك المتمتعين بحق [الفيتو]. وسُقت البراهين الدامغة، في مقال سَلَف، خشيت أن أصَنَّف من المحْبِطين، اليائسين.
غير أن من لقيت يصف قولي بالحُكم المتأخر. ويبدي تذمره، واستيائه من تحامل تلك المؤسسات على سيادة الأمة العربية، وتفويت الفرص الثمينة عليها.
المهم ليس في أن يُزَكَّى القولُ، أو أن يصيب المحز، وإنما هو في أن يثير المشاعر، ويجد من يرد الصوت.
أريد من هذا المدخل عصف الأذهان، وتحفيزها لتلقي ما سأقول بوعي. على أني لا أزكي ما أرى، ولا أعُدُّه فصل الخطاب. ما ألفظ به من قول رؤية أشبه بالموجة، تجري وراء موجات، وتليها موجات أخرى. وأرجو ألا يتلاشى مانرى، كما تتلاشى الموجات على الشواطئ.
أملي أن تلامس صيحات المقهورين نخوات [مُعْتَصِمية]، تمكن الأمة من إعادة ترتيب أشيائها، لتواجه الواقع المضطرب بما يوقف انهياراته.
عالمنا العربي ينتهب الخطى نحو الهاوية، وكل أموره في سفال، وهذه يقينيات، لايختلف حولها العقلاء. ومن قال غير هذا، فقد أعوزه الدليل، وخذله الواقع.
ومع هذه الظلمات المتراكم بعضها فوق بعض، يبدو في آخر النفق المظلم بصيص نور خافت، تطارد لهبَه رياحٌ عاتيةٌ.
وهو أمل يُعَلِّق عليه المتألمون من واقع أمتهم كل آمالهم، ويودون له التجذر، والانتشار، وإشاعة الضوء، والدفء.
هناك من يود مسايرته، بوصفه آخر صيحات [النذير العريان]، ولكنه مثقل بتراكم المشاكل، وتعدد الخيارات.
وآخرون يتسلَّلوُن من طريقه لواذاً، لأنه يكشف مخبوءهم، وينقض غزلهم من بعد قوة أنكاثا.
وينظر إليه أقوام آخرون بعيون فارغة من كل هم، زائغة عن كل حق. بحيث يَمرون به، أو يمر بهم، وكأنه لايعنيهم، وبعض هؤلاء، وأولئك يقولون فيه ماقال [مالك] في الخمر.
وكل متلق مأفون بالأثرة، ينطلق في رؤيته من مصلحته الذاتية، ويمتعض مما تتركه تلك المبادرات من أثر على حاجاته، وأشيائه.
هذا التصور ربط على فؤادي، وجعلني استمع بهدوء إلى تناقضات المواقف من هذا الحدث الجلل.
ومالم تُهيأ الأجواءُ المناسبةُ لتَفَتُّح أكمام المبادرات الخيرة، وانتشارِ عبقها، واكتمال استوائها. فإن الفرصة الذهبية لن تطرق أبواب أمتنا مرة ثانية.
هذا التوهج تتنوع حركاته، وتتعدد مواقعه، وتتشابه مبادراته. ولكنه في النهاية جميع وسائل النجاة للغرقى في وحل التناقضات.
الحركات [المكوكية] من الرياض وإليه، والزيارات الميمونة التي قام بها [خادم الحرمين الشريفين] لـ[مصر]، و [تركيا] حلقات مضيئة في سلسلة المبادرات، تعيش حضوراً إعلامياً طاغياً، عبر قراءات متعددة، ولكنها متقاربة.
وفي خضم القول، والقول المضاد، حاولتُ جَهدي مقاربة الإنجازات بروح عربية إسلامية، بعيدة عن التعصب الإقليمي، والتزكية المطلقة، لتكون قراءاتي تحليلية، تقويمية، تستقرئ المستقبل، وترصد التنبؤات، وتتقرَّى النتائج المرتقبة.
ذلك أن أي عمل مهم، ومؤثر، هو أشبه بزخات المطر، يُحْيي أرض قوم، فيشربون، ويرعون أنعامهم.
ويجرف أرض قوم آخرين، فيحمل الثاغية، والراغية، ويقتلع البيوت، ليلقيها في مكان سحيق. ولا غرابة فـ:- [مصائب قوم عند قوم فوائد]. فـ[إيران] -على سبيل المثال- تتجرع مرارات انتصارتنا.
المنجزات الاستثنائية كـ[العباقرة]، يختلف الناس حولهم، ولكنهم باقون في ظل الاختلاف عباقرة.
ومثل هذه المنجزات لايُفَوِّتها إلا الأخسرون أعمالاً، لأنها كالفرص النادرة التي لاتمر بأطياف الأمة إلا مرة واحدة.
وليس شرطاً أن تكون تلك الأطياف مهيأة لتلقيها، واستثمارها، والنظر إليها بعين الرضى، ولكنها تحتاج إلى من يُقَوِّم عوائدها، فإن غلب خيرها، وجب تقبلها بقبول حسن.
وحتى لو لم تكن في صالح شريحة ما، فإن واجبها أن تحسب لكل الشرائح الأخرى حسابها.
لست فيما أقول معنياً بالتبرير لمن تحفظ، أو عارض. أنا مواطن أشْتَغِل ضمن ثلاث دوائر:- الوطنية، والإسلامية، والعروبة.
فإن استطعت خدمة الهموم الثلاثة، فذلك ما كنت أبغي، وإلا فالأقربون أولى بالمعروف، على حد:- {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.
إنني حين أريد إسماع الآخر، وترويض جماحه، وثنيه عن هواه، وتهيئته لاستيعاب رؤيتي، لابد أن أمنحه مساحة من المشهد، ليمارس حقه بحرية، حتى يسمع مالدي من حق، على سَنَنِ:- {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ}.
ومادمت أمتلك الأوراق الرابحة، فإن من مصلحتي ألا أجاري المناوئَ في لجاجته، وفهمه الخاطئ. فالمجاراة تضعني تحت طائلة:-
[إذَا جَارَيْت فِي خُلُقٍ دنيءٍ ... فأَنْتَ وَمَنْ تُجَاريه سَوَاءُ]
البراعة في الاحتواء، أو التحييد على الأقل. ليتمكن الشجي من طرح أوراقه.
وعلى ضوء هذا الخيار فإن من الأفضل أن أكون بارعاً في صناعة الأصدقاء، وأن أقول كلمتي، وأمضي. ليمارس الآخر حقه في تجلية رؤيته، والتنفيس عما يعانيه من احباطات.
فإن كان الحق ضالته، فما أقدمه كفيلاً بثنيه، وحمله على القبول، وإن كان الانتصار هدفه، فلا أقل من الاحتفاظ بالجهد، والوقت، وتوظيفها لإنجاز عمل مماثل، يقيل عثرة الأمة، ويحفظها من الترديات المتلاحقة.
لقد كانت زيارات [خادم الحرمين الشريفين] مثار إعجاب السواد الأعظم من ذوي الخبرة، والإختصاص. وإذا كان التشريع قائماً في أحكامه على التغليب، فإن ما سواه من باب أولى.
لا أحد يستطيع أن يقطع بأن خيارنا يمثل القواسم المشترك، ولكنه يظل على الأقل هو الأفضل.
لقد أعطينا الكثير، وكسبنا الأكثر، والنجاحات ليست في الأخذ وحده، كما أنها ليست في العطاء وحده.
التوازن في معالجة المعضلات المعلقة، أدعى إلى تفادي التكسير، للوصول إلى المراد.
حَمَلةُ الهمِّ الإنقاذي كـ [امرئ القيس] حين علم بمقتل والده. صاح بمرارة:- [ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً].
الذين عارضوا بعض المعطيات التي أنجزها بإحترافية متفوقة فريق العمل من [المملكة]، و[مصر] تحت إشراف، وتوجيه قادة البلدين، لهم حساباتهم، وتطلعاتهم.
ومن الأفضل لنا أن ندع الفرصة لهم، ليقولوا مابهم، فاحتباس القول، كاحتباس ماسواه داخل أجهزته، قد يؤدي إلى الأسوأ.
المتيقن أن المكونات السكانية في [مصر] أو غيره، تود أن يكون لها [مفحص قطاة] في المنجزات الوطنية، غير أنها قد لاتوفق في تلمس الطريق إلى هذا الدور.
لقد أنجز قائدنا ببراعة ماتم الاتفاق عليه بين أطراف تملك الحق في اتخاذ القرارات المصيرية.
وإذا كانت بعض المكونات السكانية الضعيفة، على خلاف في الرأي مع السلطة، فإن فينا من لايعجبه العجب، ولا الصيام في رجب، ممن تُصَرِّفهم الإشاعات المغرضة.
مانوده من المعارضة هنا، أو هناك أن تكون إيجابية، وأن تكون وطنية، وليست حزبية، ولا مُزَايِدَةً فيما تجتر لحساب الغير.
لقد اسعدتنا النجاحات المتلاحقة لصاحب المبادرات. ومثل هذا التألق يُزَهِّدنا في الدخول في التفاصيل، ويهون عندنا وقع الشائعات، والافتراءات، كقوة فاشلة في الحرب النفسية.
تطلعاتنا تعطو إلى مزيدٍ من النجاحات، وتَتَبُّع جُيوب المشاكل العالقة، فالزمن لايحتمل مزيداً من المناكفات، وجسم الأمة أضعف من أن يحتمل الإغماض على الفساد:-
[إذَا مَا الجُرْحُ رَمَّ على فَسَادٍ ... تَبَيَّنَ فِيْهِ إهْمَالُ الطَّبِيْبِ]
قائدنا، وهو يُزجي الصفوف تحت راية التوحيد في معترك المشاكل المتجذرة، أحوج مايكون إلى الدعاء الصادق، في ظهر الغيب، وحفظ الساقة المتمثلة بتماسك الجبهة الداخلية، ولزوم الجماعة، لأن يد الله معها.
ومتى ابتلينا باللغو فلنمر به مرور الكرام. وعند الإضطرار فإن مواجهة المتحفظين بهذا الأسلوب التسفيهي، التهميشي، يعمق الخلاف، ويَحول دون عرض وجهة النظر بإسلوب الاحتواء، والإقناع، والدفع بالتي هي أحسن.
الذين يختارون الصدام، والاتهام، والتحريض على التصفية، والإقصاء، لايتوفرون على مايتوفر عليه وطننا.
وطننا يمتلك ميزتين، قَلَّ أن يتوفرا لغيرنا:-
- اقتصاد جاذب، وأمن مريح، وحماية مُطَمْئنة، لكل من وطئت قدمه أرضنا.
- مقدسات تهوي إليها أفئدة كل المسلمين، على اختلاف ألسنتهم، وألوانهم، ومللهم، ونحلهم.
وبهاتين الميزتين يجب أن نمتلك لغة تفاوضية تداولية، تحتوي، ولاتنفر، وتسترضي، ولاتُغضِبْ. وتصالح، ولا تقاطع. فنحن بما نملكه من كافَّة المقومات الحضارية أحوج مانكون إلى قوة الدفع، لاقوة الطلب.
وحين لاتكون لنا حاجة بأحد، فلنيسر الأمر لمن هو بحاجة إلينا، ولنسع في حاجات من تجمعنا به العقيدة، واللغة، والمصير المشترك. ولنا في رسول الرحمة قدوة:- [اللهم اهد قومي فإنهم لايعقلون].