د. فوزية البكر
بل لنقل أن هذه المعلمة (السعيدة) لم تكن محظوظة بدرجة كافية للحصول على عمل في وسط حفر الباطن بل في إحدى الهجر التابعة لها وهي تصف الأمر كالتالي:
«بحمد الله رزقني المولى بعد طول انتظار فرصة عمل بهذه الهجرة التي بحثت عنها بعد أن صدر قرار تعييني فيها طوال أيام حتى وصلتها, فلم
أكن أصدق أن هذا الطريق المتعرج غير المسفلت المنطلق من حفر الباطن يؤدي لها, كنت أخاف أن أضِل في هذه الصحراء القاحلة ولا أعرف كيف أعود للطريق مرة أخرى.
المساكن في الهجرة قليلة ومتواضعة جداً ذات طابق واحد, وفوق ذلك لا يوجد إلا مسكن واحد فقط للإيجار تسكنه إحدى المعلمات مع أسرتها وهي التي تم تعيينها قبلنا, لذا لا يوجد خيار آخر للعمل في هذه الهجرة غير النقل الخاص ونحن تسع معلمات أي أننا -عصبة- إن صح القول في مواجهة ما قد يحدث لنا في ذهابنا من الرياض إلى هذه الهجرة يوميا وعودتنا منها آخر النهار إلى الرياض وعبر النقل الخاص حيث لا تعرف البلاد شبكة قطارات عامة ولا باصات كما في كل العالم.
تنطلق رحلتنا عبر النقل الخاص عند الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل بعد أن نستودع أحبتنا وأهلنا الله وقلوبنا تقرع من الخوف لنواجه بداية بخلوة مع سائق أجنبي متهور تعب من هذا الطريق الشاق لسنوات، وبين تحرشات من الشباب عند الإشارات الضوئية ودخول أحياء مرعبة غير آمنة ومقاهٍ واستراحات ومداهمات تفرغ قلوبنا من كل طمأنينة وتملء أرواحنا بالقلق والتوتر والتوقعات التي لا تنتهي أدام الله علينا وعلى وطننا الأمن والأمان وحفظ الله رجال أمننا من كل سوء.
بعد أن نقوم بتجميع المعلمات التسع من الأحياء المختلفة في آخر الليالي ننطلق مغادرين الرياض متوكلين على الله والأمور في بداية الأمر تبدو جيدة في هذا الطريق ذي المطبات المتواصلة والقفزات المتتالية التي تبقينا مستيقظات حتى يظهر فجأة قطيع من الجمال ويكبح السائق على الفرامل ونندفع جميعنا إلى الأمام, لكن لا بأس فهذه الرضوض البسيطة اعتادتها أجسادنا فلا تؤثر فينا كثيراً.
ويقترب وقت صلاة الفجر وتتسابق الأفكار أين سنصلي اليوم, فالمحطات المتهالكة والمخيفة هجرناها لما تعرضنا فيها لأمور لا أود ذكرها.
وما يثقل كاهلنا بالطريق ليس الموت فنحن متوكلات ومؤمنات، إنما الأحوال الجوية التي لا تخطر على بال أحد , فنحن بين منطقتين مختلفتين مناخيا: بين منطقة الرياض إلى حفر الباطن التي تختلف في مناخها وطبيعتها الصحراوية القاسية عن المدن التي روض البنيان فيها هجمات الرمال المخيفة إذ وبلا مقدمات قد يحدث أن تعصف بنا عواصف رملية, أمطار رعدية, لندخل في صراع مرير مع الطريق وأهواله وخطره, لذا أرجوكم وقبل أن تفكروا وتكتبوا حول تعليق الدراسة في المدن, هل فكرتم بمن يسافرن يومياً من منطقة لأخرى .. مع من تعلق!!! وكيف بالسائق اختراق الصحراء في ظل العواصف الرملية؟
وفوق هذا وذاك فما يؤلمني حقاً هي تلك الأموال التي تدفعها الدولة والتي أدرك حجمها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل حين تقلد وزارة التربية والتعليم آنذاك وكم تمنيت لو أنه أنجزها قبل خروجه من الوزارة ألا وهو قرار ضم المدارس في بعض الهجر القريبة من بعضها البعض والذي للأسف لم ينفذ رغم أنه يمثل ثروات هائلة مستنزفة على مدارس معلماتها أكثر من طالباتها في الغالب و نسبة كبيرة من هؤلاء المعلمات وأنا منهن من حملة الشهادات العليا ) وكل هذا لأن الأهالي يصرون أن تكون المدرسة متوسطة بين منازلهم رغم الباصات المخصصة لنقل الطالبات التي وفرتها الدولة بحيث يمكن للطالبة أن تستقل الحافلة وتبقى فيها بعض الوقت قليلاً وتوفر مئات الآلاف التي يحتاجها قطاع التعليم خاصة والقرى بمدارسها مجتمعة لا تبعد عن بعض سوى بضع الكيلومترات ولكم أن تحسبوا الرواتب والميزانية الخاصة بالمدارس وفواتير الكهرباء والماء والإنترنت في هذه الهجر جميعها, في حين هذا ما تحتاجه التجمعات السكانية الكثيفة الواقعة في المدن الكبرى وبهذا الكم الهائل من المعلمات بدل تناثرهن في قرى وهجر صغيرة لا تبعد عن بعضها سوى عدة كيلو مترات. بالطبع لا أحد يناقش حق الجميع في الحصول على تعليم حكومي مجاني بما فيهم أبناء الهجر لكننا يمكن أن نفعل ذلك بإستراتيجية خاصة وبتنظيم أكثر ترشيداً للنفقات خاصة في هذه الأوقات الحرجة من الانخفاض المروع في أسعار البترول الذي أثر على ميزانيات كافة القطاعات بما فيها التعليم.
« أنا اسمي العنود وقد كتبت مقالتي هذه عند الساعة الثانية ظهراً من يوم الأربعاء وأنا أفترش الطريق في انتظار «السطحة» لتعود بنا للرياض فقد غرزنا في الرمال الملتهبة الحرارة كما هو المعتاد.
ملاحظة:
1 - هذه قصة حقيقية والمعلمة لا زالت تعيش الكابوس كل يوم
2 - تبعد حفر الباطن عن الرياض حوالي 500 كيلو متر وهي تقع شمال شرق السعودية وتقع الهجر المحيطة بها على أبعاد تتراوح بين الثمانين إلى مائة كيلو.