م. خالد إبراهيم الحجي
إن مصطلحات التصنيع المشهورة التي تتكرر كثيراً جداً مثل صُنع في اليابان أو صُنع في ألمانيا أو صُنع في أمريكا، أو باقي الدول الصناعية الكبرى الأخرى لها أهمية بالغة، تتجاوز نطاق بلد المنشأ الجغرافي إلى الانطباع الذهني عن الصورة الصناعية،
أو الطابع الذي يحمله المجتمع الصناعي، وانطباعات المجتمعات الأخرى ونظرتها إليه، ويؤكد علماء الاجتماع على أن مصطلح المجتمع الصناعي يطلق على المجتمعات التي تتحقق فيها المواصفات التالية:
(أ) المجتمعات التي تطور نفسها بكفاءة عالية، من المجتمعات البدائية التي تعتمد على الأيدي العاملة، في الرعي والصيد والزراعة، إلى المجتمعات التي تعتمد على تصنيع البضائع، والمنتجات الاستهلاكية، وخدمات الإنتاج الصناعي المختلفة بواسطة الآلات الحديثة والمكائن المتطورة.
(ب) المجتمعات التي تنتشر فيها الوظائف التي تشترك فيها الأيدي العاملة والآلات المتنوعة، والمكائن الحديثة لإنتاج المتطلبات الاستهلاكية، والبضائع المتنوعة، والأجهزة المختلفة، مثل التصنيع الغذائي وتصنيع السيارات وغيرها؛ لأن جزءاً كبيراً من موارد الاقتصاد الوطني للدول الصناعية يعتمد على المزاوجة بين الركائز السابقة، ويرتبط بها.
(ج) المجتمعات التي تستخدم المعرفة وتوظيف العلم لتحقيق التقدم التكنولوجي؛ لتطوير الصناعات التي تدعم المجتمعات السكانية، وتخدمها. والهدف من الاقتصاد الصناعي بشكل عام هو الإنتاج المنظم لكميات ضخمة من المنتجات الاستهلاكية، والبضائع المتنوعة، والأجهزة الحديثة بمواصفات موحدة وعالية الجودة، وبطرق سريعة جداً، مثل جميع الأجهزة التي تعمل بطريقة مماثلة للأجهزة الأخرى المناظرة لها. ومن المهم جداً فهم العلاقة بين متطلبات التصنيع وشرائح السكان المختلفة من الزاوية الاجتماعية والحضارية؛ لأن التصنيع يمس طبقات المجتمع المنخرطة في النشاطات المختلفة خلال مراحل تطور التصنيع المتعاقبة كالآتي:
(1): مرحلة الاستفادة من المواد الخام الأولية: هي الاستفادة المباشرة من المواد الخام الأولية التي تنتج من الأرض، أو تستخرج منها للاستهلاك أو البيع، مثل الخشب والفحم والقمح والحديد، والشريحة السكانية التي تنخرط في هذه الأعمال تكون عادة من نوع المزارعين وعمال المناجم، وما في حكمهم، وبفضل التقدم والتطور التكنولوجي قل الاعتماد على الأيدي العاملة في هذا المجال؛ بسبب توافر الآلات المتطورة والمكائن الحديثة، مثل استخدام الرش المحوري في ري مزارع القمح، وفي العالم الغربي تبلغ نسبة الشريحة السكانية التي تعمل في هذه المرحلة من 5% إلى 10% من القوى العاملة تقريباً.
(2): مرحلة الثورة الصناعية: هي جزء من مراحل التطور الاقتصادي الذي يُحول المواد الخام إلى بضائع ومنتجات للاستهلاك المحلي الداخلي، والتصدير الخارجي، مثل تحويل أنواع النسيج إلى الملابس المختلفة، وتحويل الخشب إلى أنواع الأثاث والموبيليا، وتحويل الحديد والألمنيوم والبلاستيك إلى أدوات وآلات ومركبات ومعدات ثقيلة.. إلخ..، والشريحة السكانية المنخرطة في هذه المرحلة تكون عادة من الأيدي الماهرة، والفنيين والمهندسين لإدارة الآلات الحديثة والمكائن المتطورة، وتعد هذه المرحلة مؤشراً على درجة التحول والنمو الاقتصادي الوطني، وفي العالم الغربي تبلغ نسبة الشريحة السكانية التي تعمل في هذه المرحلة من 15% إلى 25% من القوى العاملة تقريباً.
(3): مرحلة ثورة الاتصالات والمعلومات: المتمثلة في تطور الحواسيب، وانتشار استخدام برامجها في جميع الأعمال المختلفة، والصناعات الحديثة، وظهور الإنترنت، والأجهزة الذكية المحمولة وغيرها من منتجات التكنولوجيا المتطورة، ويعود الفضل في هذه المرحلة المتطورة إلى مخرجات مراكز العلوم والأبحاث، ونبوغ وإبداعات بعض المفكرين والمبتكرين في المجالات المختلفة، فنشأت نتيجة لهذه المخرجات والابتكارات والاختراعات المؤسسات، والشركات الصناعية والتجارية التي تحولت فيما بعد إلى شركات مساهمة عامة، وعبر تداول أسهمها في البورصات بلغت قيمها السوقية مليارات الدولارات، وهذه الشركات العملاقة توظف وتستوعب مختلف المهن الحرة، مثل الأيدي الماهرة، والفنيين والأخصائيين والمحاسبين والمهندسين والمحامين والأطباء والباحثين والعلماء، وغيرهم من مختلف المهن الأخرى. وتبلغ المهن الحرة للدول الصناعية في العالم الغربي المنخرطة في هذه المرحلة نسبةً تتراوح من 65% إلى 75% من القوى العاملة تقريباً. والغالبية العظمى من الناس تدرك عصر الثورة الصناعية والاتصالات والمعلومات، وترى آثارها ملموسةً على أرض الواقع؛ لأنها تتجسد أمامنا في وجود المصانع المختلفة، ومنتجاتها الحديثة المرتبطة بحياتنا اليومية، مثل الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، والحواسيب وأجهزة الاتصالات، والمعدات الثقيلة، وتوظيف الهندسة الوراثية في التهجين لإنتاج أعدادٍ أكثر وسلالاتٍ أفضل، وغيرها من تطبيقات التكنولوجيا الحديثة. لكن الذي تجهله الغالبية العظمى من الناس أن الدول الصناعية المتقدمة تسعى إلى تجاوز عصر الثورة الصناعية والاتصالات والمعلومات إلى مرحلة أكثر تطوراً منه، وهذه المرحلة تسمى مرحلة ما بعد التصنيع (تصدير الخدمات القائمة على المعرفة)؛ وتعني المرحلة التي يصبح الدخل الوطني لا يعتمد فيها على التصنيع فقط، وإنما يتحقق فيها أيضاً دخل إضافي من تسويق المعرفة وتصدير تطبيقاتها العملية، والدخل المتحقق للدول التي دخلت في مرحلة ما بعد التصنيع ليس مقابل منتجات عينية، وإنما مقابل تصدير الخدمات القائمة على المعرفة والعلم والابتكار. والاقتصاد الوطني لفترة ما بعد التصنيع تتراجع فيه تدريجياً نسبة الاعتماد على التصنيع، وتتناقص فيه الصناعة في مقابل الزيادة التدريجية وإعطاء الأولوية لتنامي تسويق المعرفة، وتصدير تطبيقاتها العملية، والابتكارات والاختراعات التي تنتج عنها؛ فصبح تصدير الخدمات القائمة على المعرفة والعلم والابتكار من الدعائم الأساسية للاقتصادات الوطنية الحديثة. ومن مخرجات مرحلة ما بعد التصنيع التحول الكبير في آلية الإنتاج الصناعي إلى طريقتين:
الأولى: تصنيع القطع والأجزاء في دول عديدة، وتجميعها في دولة المنشأ، وهذه الآلية منتشر بكثرة بين دول الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة الأمريكية.
الثانية: تصدير الخدمات القائمة على المعرفة وتتمثل في تصدير فكرة اختراع المنتجات التي توصلت إليها الدول المصنعة، مع حماية حقوق الملكية الفكرية لدولة المنشأ، والاحتفاظ بالعلامات التجارية الخاصة لكل منتج؛ ولأن هناك طلبا عالميا متزايدا على الخدمات القائمة على المعرفة، وتطبيقاتها العملية المتمثلة في الاختراعات الحديثة، أصبح لدى الدول الصناعية المتقدمة اهتمام متزايد لتصدير الخدمات القائمة على المعرفة، والاستثمار في العلوم التطبيقية والتكنولوجيا بدرجة أكبر من أي وقت مضى، وتصدير الدول المصنعة لفكرة التصنيع إلى دول أخرى لتقوم بتصنيع المنتجات القائمة على تلك الفكرة، نموذج متكرر؛ نشاهده في الأسواق كثيراً في المنتجات التي تحمل علامات تجارية مشهورة، مثل أمريكية أو ألمانية أو يابانية، وعليها ملصقات صُنع في الصين أو صُنع في كوريا أو صُنع في ماليزيا أو صُنع في سنغافورة؛ لأنها تمتلك المواد الخام والأيدي العاملة الماهرة بأسعار مناسبة؛ فتصبح التكلفة أقل.
إن التوجه الحديث للمملكة، بالتحول السريع من الاعتماد على مجال النفط ومشتقاته إلى إيجاد البدائل المختلفة يدل على مرونة الاقتصاد الوطني، والقدرة على تحريك الموارد المالية، وتنميتها في المجالات الاستثمارية المتعددة، وما أشد حاجة المملكة اليوم إلى الدخول بقوة في مجال الصناعة، والاستثمار في العلوم التطبيقية والتكنولوجيا بدرجة أكبر من أي وقت مضى؛ بهدف الانتقال بسرعة خاطفة عبر مرحلة التصنيع إلى مرحلة ما بعد التصنيع؛ ولتصبح المملكة رائدةً في المستقبل في مجال تصدير الخدمات القائمة على المعرفة والعلم والابتكار في العالم لا بد لها أن تحقق التالي:
أولاً: بذل الأموال الطائلة لتفعيل دور مراكز البحوث العلمية لإنتاج المعرفة والابتكارات في إجراء التجارب المختلفة للوصول إلى النتائج العملية، لتطبيقها على أرض الواقع.
ثانياً: استثمار المؤهلات التعليمية العالية المتوفرة لديها، وعلى وجه الخصوص حملة الدرجات العالية في المجالات العلمية المختلفة.
ثالثاً: استقطاب أصحاب العقول المفكرة والمبتكرة والعلماء من دول العالم للعمل في مراكز البحوث العلمية التطبيقية بالمملكة.
رابعاً البدء في طَرْقِ المجالات المتنامية والدخول فيها على وجه السرعة، مثل الحاسب الآلي وتقنية المعلومات والصناعات المبتكرة.
الخلاصة:
يجب على المملكة أن تسعى جاهدة إلى الوصول إلى مرحلة ما بعد التصنيع؛ بِطَرْقِ مجال تصدير المعرفة والعلم والابتكار، كي تختصر المسافة والزمن لتنويع وتنمية مصادر الدخل والاستثمار.