د. عبدالحق عزوزي
الإستراتيجية الهادفة والبناءة في بناء الدول والأمصار وإحداث التكتلات ليست محدودة في المسائل العسكرية؛ كلا وألف كلا! فمفهوم الاستراتيجية ليس محدودا في الهيمنة العسكرية أو التخطيط العسكري؛
وحتى الأمن القومي فهو يتمثل في أكثر من مجرد استخدام الجيش، ويتطلب تطوير وتوظيف جميع عناصر القوة التي تمتلكها الأمة؛ وعلاوة على ذلك فإن الأمن القومي يشمل المكونات الداخلية الخارجية، وهذا يزيد من تعقيدات ترسيخه على أرض الواقع؛ وبمصطلحات مبسطة حسب ما كتبه الخبير هاري آر يارغر في كتابه المعتمد عن الإستراتيجية ومحترفو الأمن القومي، يمكن القول: إن الإستراتيجية في جميع مستوياتها معرفة بأنها حساب الأهداف والمفاهيم والموارد ضمن حدود مقبولة للمخاطرة، لخلق نتائج ذات مزايا أفضل مما يمكن أن تكون عليه الأمور لو تُركت للمصادقة أو تحت أيدي أطراف أخرى. والإستراتيجية تعرف رسميًا في المنشورات المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية في الفقرة 1 البند 02 بأنها: «فكرة أو مجموعة أفكار حكيمة من أجل توظيف أدوات القوة الوطنية بطريقة منظمة ومتكاملة، لتحقيق أهداف معينة في مسرح العمليات وأهداف وطنية و/ أو متعددة الجنسيات». وهناك تقريبا سبعة عشر بعدا للإستراتيجية كما يقول كولن إس. جراي وهي: الأشخاص، والمجتمع، والثقافة، والسياسة، والأخلاق، والاقتصاد والإمدادات اللوجستية، والمؤسسة، والإدارة، والمعلومات والاستخبارات، والنظرية الاستراتيجية والعقيدة، والتقانة، والعمليات، والقيادة، والجغرافيا، والاحتكاك/ المصادفة/ التوجس، والخصوم، والزمن. وهذه الأبعاد يجب أن تؤخذ بالحسبان بكليتها، أي باحتساب كل بعد منها فرديا من دون إغفال أي منها، مع احتساب تأثير البعد الواحد في سياق علاقته مع الأبعاد الأخرى.
ثم إن غرض الإستراتيجية كما رأينا ذلك في مقالة الأسبوع الماضي هو ترجمة الغرض السياسي (الهدف الوطني، والمصالح القومية، ودليل السياسة) إلى تأثيرات تشكل البيئة الاستراتيجية على النحو المفضل. وهي شاملة في نطاق رؤيتها ومحددة في حقل تنفيذها. فالاستراتيجية تُعنى بالمستقبل وتحليل المشكلات وتجنبها، وهي تؤدي هذه المهمة من خلال تقويم دقيق للبيئة الاستراتيجية لتحديد وانتقاء العوامل الاستراتيجية الأساسية، التي يجب أن تعالج لخدمة مصالح الدولة بنجاح.
فالرؤية الشخصية لصانع السياسة أو الخبير الاستراتيجي تتضمن نظرة موضوعية للبيئة الحالية، وتقويما مسبقا لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار بلاده في المستقبل. ويعتبر الخبير الاستراتيجي بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ يه، ولكنه على يقين أنه يمكن التأثير فيه وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج أفضل...
لذا توجت القمة الخليجية المغربية الأولى ببيان ختامي استراتيجي فريد من نوعه في ظرفية عربية خاصة لم تعد تسمح للقاءات عابرة ولا لبيانات تعج بالعموميات والأساليب الرنانة والإطناب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. والبيان استراتيجي لأنه ترجم الأغراض السياسية في تأثيرات لتشكيل البيئة الاستراتيجية على النحو المفضل. وهي شاملة في نطاق رؤيتها ومحددة في حقل تنفيذها بين دول الخليج والمغرب.
فالوضع العربي خطير جدا كما أكد ذلك جلالة الملك في خطابه: «إن هذه القمة تأتي في ظروف صعبة. فالمنطقة العربية تعيش على وقع محاولات تغيير الأنظمة و تقسيم الدول، كما هو الشأن في سوريا والعراق وليبيا مع ما يواكب ذلك من قتل و تشريد وتهجير لأبناء الوطن العربي..» فها نحن نرى الويلات المتتالية التي تصيب اليمن، والعراق دخل في شبه حرب طائفية وقومية لا يختلف اثنان على أن البلد ذاهب إلى تقسيم سريع محكم البنيان، ومجهز من الخارج والداخل لتقويض دعائم بلد يعج بالخيرات الطبيعية، ويستحيل أن يقبل الأكراد الخضوع إلى سلطة مركزية ضعيفة ومسيرة من الخارج، ولا الشيعة أن يوافقوا على مشاركة القصعة السياسية بمناصفة مقبولة مع الآخرين، فالتقسيم الثلاثي للبلد لا مفر منه، كما أن التقسيم في ليبيا مسألة مريرة قد تصل إليها البلدة في ثلاثية جغرافية يتصارع عليها الثقلان إن لن تتدارك الأوضاع سريعا؛ أما سوريا التي هجر منها الملايين من البشر وشرد أهلها وقتلوا وأصبحت عاصمة للمتدخلين من الدول والمنظمات والجماعات الإرهابية والقوى الدولية، فلن تعود موحدة البتة وكل التكهنات الجادة توحي على أنها ستكون على الأقل كونفدرالية أو حتى مقسمة. الكلام سيطول بنا إذا تحدثنا عن هاته التقسيمات إلا أنها بالقطع ستحدث شرخا في جدار وحدة الدول وستخرب الأوطان وتدمرها لنقع نحن العرب في فجوة عميقة وداهية ومصيبة آزفة ليس لها من دون الله كاشفة.
وبسبب هاته الأوضاع المزرية حذر العاهل المغربي الملك محمد السادس في خطابه من «مخططات مبرمجة» تستهدف الدول العربية، ومؤامرات تستهدف المساس بالأمن الجماعي لدول الخليج والمغرب والأردن، التي وصفها بأنها واحة أمن، مؤكدًا أنه يعتبر أمن واستقرار الخليج من أمن بلاده». فالمغرب دولة مستقرة ومنفتحة استطاعت أن تقطع أشواطا في تثبيت وتجذير أسس الدولة الحديثة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأصبحت فاعلا محوريا في إفريقيا وأوروبا والفضاء المتوسطي، وعامل ردع للإرهاب العابر للقارات بفضل حنكة مؤسسته الملكية وقوة أجهزته ومؤسساته وتتقاسم مع دول الخليج العربي نفس القواسم ونفس المصير المحتوم؛ ودول الخليج العربي هي واحة أمن واستقرار بفضل عوامل النمو والتنمية التي حققتها وعوامل الثقة التي تجمع الحاكمين بالمحكومين، ولكنها واحات وسط براكين راكدة أو مشتعلة تستلزم سياسات استراتيجية مبنية على التعاون الأمني والسياسي والاقتصادي بين دول الخليج والمغرب.
لذا لم يغب في البيان المشترك، تأكيد قادة الدول موقفهم الداعم لمغربية الصحراء، ومساندتهم لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب، كأساس لأي حل لهذا النزاع الإقليمي المفتعل. كما أعربوا عن رفضهم لأي مس بالمصالح العليا للمغرب إزاء المؤشرات الخطيرة التي شهدها الملف في الأسابيع الأخيرة. ومن جهة أخرى عبر القادة عن التزامهم بالدفاع المشترك عن أمن بلدانهم واستقرارها واحترام سيادة الدول ووحدة أراضيها وثوابتها الوطنية، ورفض أي محاولة تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ونشر نزعة الانفصال والتفرقة لإعادة رسم خريطة الدول أو تقسيمها، بما يهدد الأمن والسلم الإقليمي والدولي. وانطلاقا من هذه الثوابت، أكدت القمة أن دول مجلس التعاون والمملكة المغربية تشكل تكتلا استراتيجيا موحدا، حيث أن ما يمس أمن إحداها يمس أمن الدول الأخرى.
المسألة إذن دقيقة وفي غاية التعقيد والخطورة وتستلزم أجوبة استراتيجية رائدة، ويمكن التأكيد أن المنظومة الخليجية والمغرب أسسا اليوم لهاته المعادلة الاستراتيجية تقوم على الشراكة وعلى المصير المشترك، وعلى تشخيص المشكلات وتجنبها قبل وقوعها أو مواجهتها استراتيجيا بما يضمن ترجمة الأغراض إلى تأثيرات تشكل البيئة الاستراتيجية على النحو الأفضل، ضامنة المرونة والقدرة على التكيف والهجوم الاستراتيجي على الأعداء والمناوئين وواضعة الحدود للوصول إلى النتائج المرجوة.
آخر الكلام: هناك عقدة لا تزال في أدبيات البيت الأبيض أن أي تحذير خليجي من الدور الإيراني في المنطقة يعني الاستنجاد التقليدي لمواجهة نظام إيران؛ وهاته من أكبر الأخطاء لأن كل ما تطلبه المنظومة هو عدم مكافأة إيران على إرهابها.. و»عاصفة الحزم» وقبلها «درع الجزية» وتأسيس التحالف الإسلامي العسكري، كلها لم تنتظر الضوء الأخضر الأمريكي، وأن المنظومة أسست لعلاقات جديدة مع الحليف الأمريكي على الشراكة وليس على الاستنجاد، ويخطئ الخاطئ إذا ظن في القرن الواحد والعشرين أنه يجب أن يكون «محمية لأحد»...