فيصل أكرم
(كنا قديماً حين نلمح من يحمل لقب (دكتور) ويعمل (أستاذاً) في جامعة، نقف له احتراماً وننحني أمامه وربما نقبّل يديه.. فهذا صاحب أعلى الدرجات (العلمية).. هكذا كنا نظنّ ولم يكن ظننا إثماً قبل أن نصل إلى هذا الزمان الممتلئ بالآثام).
كانت تلك مقدمة لمقالة حادة كنتُ قد بدأتُ في كتابتها بعد ظهر الخميس السابع من رجب الجاري، فور انتهائي من حضور مناقشة رسالة ماجستير في جامعة طيبة عنوانها (الصورة في شعر فيصل أكرم) وكنتُ غاضباً جداً برغم كل عبارات المديح والإكبار لشعري، سواء من الباحثة مقدمة الرسالة أو من الدكتور المشرف عليها أو من عضويْ لجنة المناقشة، كلهم غمروني بالثناء على شعري.. بينما كان غضبي يتمركز وينحصر في نقطة واحدة، تكمن في هذا السؤال: لماذا لم يخبرني أحدٌ بالتحضير لهذه الرسالة، لولا مصادفة في محرك البحث الإلكتروني جعلتني أعرف؟ وسبق أن كتبتُ مقالة عنوانها (الشعر والجامعات.. والموت على قيد الحياة) نشرت هنا – في الجزيرة - بتاريخ 28 يونيو 2014 وأوضحتُ فيها كل ملاحظاتي على الرسائل العلمية التي تكتب عن أعمال أناس لا يزالون على قيد الحياة. ثم.. في غمرة غضبي وانهماكي في إتمام تلك المقالة (الحادّة جداً) جاءني عبر الهاتف، من مكة المكرمة – وكنتُ لا أزال في المدينة المنورة – خبر وفاة شقيقتي الكبرى (رحمة الله عليها) فكأنما الخبر أكمل لي ثقافتي.. بهذا الموت الذي سمّيته (اليتم الرابع) بعد يتمي الأول والثاني قديماً جداً بموت والدتي فوالدي (رحمة الله عليهما) ثم يتمي الثالث قبل ثماني سنوات بموت شقيقي الأكبر (رحمه الله) وهذا اليتم الرابع - وفيه كتبتُ قصيدة الأسبوع الماضي – جعلني أنظر لأمر الشعر نظرة لم أكن أعرفها قبل هذا الموت الذي أكملني يتماً من الجهات الأربع فزادني أدباً وبراني ثقافةً حدَّ النحت.. فنظرتُ متعجباً بجملة من الأسئلة: وما الفرقُ إذا كان الشاعر حياً أو ميتاً؟ ما الفرق إن علم بما يدرس حول شعره أو لم يعلم؟ ما الفرق إذا اعتمدت الدراسة على دواوينه الأصلية أو منقولات المواقع الإلكترونية؟ ورحتُ أعكسُ كلَّ قناعاتي ومسببات غضبي بأسئلة جعلتني أبدو أمام نفسي جاهلاً بكينونة الشعر الذي أفنيتُ عمري في كتابته: من قال لك إن حياتك تطول من أجل حماية قصائدك؟ العكسُ هو الأصحُّ.. فموتك حين يأتي سيحميكَ أنتَ وكلّ قصائدك، بما يليق بحجمها وحجمك!
ربما أكون قد قلتُ شيئاً يشبه ذلك في مقابلة تلفزيونية قبل عدد من السنوات، ولكنّ قولي الآن أعمق بكثير.. فقد أحالني خبر موت أختي (أو يتمي الرابع) إلى أساس الشعر.. هل كتب الشعراء قصائدهم إلا بسبب الموت؟ حتى عدي ابن ربيعة (الملقب بالزير سالم) وهو أوّل من قصّد القصائد، كما جاء في أمهات الكتب العربية، كان يقولُ الشعر صغيراً لأنه كان يتيماً وربّاهُ أخوه الأكبر وائل (الملقب بكليب).. ثم حين قتل جساسٌ كليباً ضجّت قصائد الزير بالنحيب على موت أخيه وطلب ثأره.
مررتُ بذاكرتي على معظم الشعراء الذين يشكلون العلامات الفارقة في الشعر العربي – الذي لا أعرف غيره – فوجدتُ (الموت) هو الدافع الأقوى لكتابة القصيدة الأبقى.. وتذكّرتُ قصيدة محمود درويش (جدارية) ورأيتُ أن أجمل عبارة كانت تعجبني في تلك القصيدة العظيمة هي أكثر عبارة أجزم بخطئها الآن: (هزمتكَ يا موت الفنونُ جميعها/ هزمتكَ وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنكَ الخلودُ).. أقول بمنتهى القناعة الآن: لا.. الفنونُ لم تهزم الموت.. الموتُ هو صانعُ الفنون أصلاً، فكيف يهزم المصنوعُ صانعَه؟ وكيف يفلتُ الخلودُ من كمائن الموت؟ فالموتُ هو بوّابة الدخول إلى الخلود.. كلّ من كان ذا قيمة حقيقية في الحياة، يدخله الموتُ إلى الخلود. كيف غاب ذلك عن محمود درويش – رحمة الله عليه - وهو نفسه كان يدرك جيداً أنه بعد أن (يموت) سيكون شاعراً خالداً؛ وقد أعطى تلك المعاني في جداريته نفسها..؟!
وللخلود أحكامه وترتيباته في التاريخ، فكما أن ذكر أحد شعراء المعلقات ينحو بنا إلى ذكر غيره من معاصريه، وذكر الشنفرى – مثلاً – يأخذنا إلى شعر الصعاليك كلهم، وتتوالى المقاربات بتوالي العصور، كذلك ذكر محمود درويش – كشاعر عربيّ خالدٍ بالمطلق، وليس بتقييده في شعر المقاومة الفلسطينية – يأخذنا حتماً إلى الشاعر العربيّ المخلَّد قبله في عصرنا (نزار قباني).. فلا أظنّ في العصر الحديث شعراء خالدين بمعنى الخلود على ألسنة الناس ويومياتهم – وليس خلود المعاجم والتراجم والبحوث – كمثل درويش ونزار؛ وبنزار ومن قبله وبعده من شعراء (الحب) ربما تتوازن دوافع الشعر في حالتين تشبهان بعضهما، وهما (الحب والموت) فالحبُّ حين يأتي طبيعياً ممتعاً ينجم عنه غزلٌ جميلٌ، وحين يأتي قاسياً مكللاً بالهجر والحرمان تنجم عنه عذاباتٌ مؤلمة، وكذلك الموتُ إن جاء طبيعياً فهو يتمٌ وفقدان، وإن جاء بفعل فاعل فهو الثأرُ.. وما أكث ر قصائد الثأر في شعرنا العربي. وسأسمح لنفسي بتحوير طفيف في بيت نزار قباني الشهير عن (الحب) لأقرأه هكذا:(الموتُ في الأرض، بعضٌ من تكاملنا/ لو لم نجده عليها.. لاخترعناهُ)!
وقبل ختام كلامي العائم هذا، أعود لبدء الموضوع، لأقول بصدقٍ عميق: شكراً للدكتور مختار الفجاري على كل شيء.. دعوته الجميلة التي هيأت لي حضور جلسة المناقشة، واستقبالي بمحبة منذ وصولي إلى المدينة المنورة، وكلمته الترحيبية التي افتتح بها المناقشة فكانت بمثابة تكريم لي ولتجربتي الشعرية. وأشكر كذلك الدكتور مختار الغوث والدكتورة أمل برزنجي على الكلمات العظيمة التي سمعتها منهما أثناء جلسة المناقشة.. والشكر كلّ الشكر للباحثة الأستاذة فاطمة الأحمدي على اختيارها (الصورة في شعري) موضوعاً وحيداً لرسالتها الجامعية، وأبارك لها الحصول على درجة الماجستير متمنياً لها الدكتوراه في موضوع أفضل، إن شاء الله. وأعتذر كل الاعتذار عن كل غضب أعلنت عنه سابقاً، سواء بالكتابة هنا أو في موضع آخر، أو بالمشافهة على هامش المناقشة في الجامعة أو في مقرّ إقامتي بالفندق أثناء يوم الزيارة؛ فقد صوَّب لي الموتُ قبلَ نهاية ذلك اليوم أخطاء قناعتي وأكمل لي نقصان ثقافتي فرأيتُ الأمور الآن بعين الرّضا.. كلّ الرّضا.