د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
ضمن سلسلة الأعمال التراثية المحققة التي يوالي نشرَها كرسي الدكتور عبدالعزيز المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها صدر كتاب ضمّ ثلاث رسائل كان أستاذنا الدكتور محمد بن عبدالرحمن الهدلق حققها ونشرها في دوريات علمية ثم جمعها لتخرج في مجلد واحد، وأحسن في ذلك؛ لأن في إعادة النشر فرصة إعادة نظر للنشرة السابقة ولأن كثيرًا من القراء والباحثين أميل إلى قراءة الكتب والانتفاع بها، وقلما نجد طلاب الدراسات العليا يعودون إلى بحوث نشرت في المجلات الدورية.
أما الرسالة الأولى فهي (رسالة في استخراج الْمُعَمّى) لأبي الحسن محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي (ت322هـ)، و(مُعَمّى) اسم مفعول من الفعل (عَمّى)، جاء في معجم (لسان العرب) لابن منظور قوله «والتَّعْمِيَةُ: أَنْ تُعَمِّيَ عَلَى الإِنْسانِ شَيْئًا فتُلَبِّسَه عَلَيْهِ تَلْبِيساً. وَفِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ: لأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرائي، مِنَ التَّعْمِيَة والإِخْفاء والتَّلْبِيسِ، حَتَّى لَا يَتبعَكُما أَحدٌ. وعَمَّيتُ مَعْنَى الْبَيْتِ تَعْمِية، وَمِنْهُ الْمُعَمَّى مِنَ الشِّعْر، وَقُرِئَ: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْهِمُ}(1) [66-القصص] بِالتَّشْدِيد». ونقل لنا أستاذنا الهدلق تعريف أبي هلال العسكري معنى التعمية في الشعر «والتعمية أن تجعل مكان كل حرف من البيت اسمًا.. فإذا مضت الكلمة تدير دائرة على ذلك حتى تأتي على آخر البيت»(ص20). وذكر أن فن المعمى عربيّ الوضع منذ الخليل وانتقل إلى العجم فأغرموا به. وابن طباطبا شرح في رسالته كيفية الاهتداء إلى ما عميّ في الشعر بالاستعانة بمعرفة أوزانه وإحصاء حروفه وذكر جملة من الخطوات المتبعة المعينة على كشف المعمّى، والتعمية في عصرنا الحاضر تعددت أغراضها وتعقدت أساليبها.
أما الرسالة الثانية فلا تقل طرافة عن الرسالة الأولى، وهي (رسالة في الفرق بين المترسّل والشَّاعر) لأبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابِئ (ت384هـ). وهي جواب لسؤال ربما يخطر على بال كثير من الناس حين يلاحظون أن المشتغلين بعلوم غير أدبية إبداعية تأتي لغتهم إشارية مبلغة لكنها ليست بلاغية الطابع كلغة الإبداع الشعري وما يشاكل الإبداع الشعري، وكنت أظن هذه الملاحظة عند المحدثين حتى اطلعت على هذه الرسالة التي تجيب عن هذا فتتحدث عن تباين فنّين ليسا بتباعد غيرهما كالكتابة في النحو والفقه ببعد لغتهما عن لغة الشعر وإن جاء في نظم شعري كالألفيات التي تزوى فيها العلوم، فهي ليست شعرية وإن استعارت شكل الشعر وهو نظمه، افتتح الصابئ رسالته بقوله «كنت سألتني –أدام الله عزّك- عن السبب في أنّ أكثر المترسلين البلغاء لا يفلقون في الشعر، وأن أكثر الشعراء الفحول لا يجيدون في الترسل فأجبتك بقول مجمل ووعدتك بشرح مفصل»(71)، وهو يرد ذلك إلى اختلاف طريقة الإحسان في الفنين، فسر الترسل في وضوحه وسر الشعر في غموضه، وهو بعد يفسر علة ذلك بما فرض للشعر من أوزان مقيدة وبيوت منفصلة لا يمتد النفس في البيت بأكثر من مقداره فكان لزامًا أن يكتنز بالمعنى ويدق ويلطف حتى يكون المفضي إليه فائزًا بذخيرة دفينة يظفر مستخرجها، وأما الترسل فهو موضوع وضع ما يهذّ ويقرأ متصلًا وبالجملة فما يستحب في الشعر يستكره في الترسل وما يستحب في الترسل يستكره في الشعر. وقد أدرك النحويون الفرق بين لغة الشعر ولغة غيره فالتمسوا العذر للشاعر أن يأتي من الضرورة ما يعاند به القواعد ولحنوا من يفعل ذلك في السعة منذ كان له مندوحة عن تلك المخالفة.
وأما الرسالة الثالثة فهي (الإغريض في الحقيقة والمجاز والكناية والتعريض) لتقيّ الدين عليّ بن عبدالكافي السبكيّ(ت756هـ)، و»الإِغْريضُ كُلُّ أَبيضَ مثلِ اللَّبَنِ وَمَا يَنْشَقُّ عَنْهُ الطلْع» (لسان العرب)، وهي رسالة مختصرة تزوي لك المقصود عند البلاغيين والأصوليين بهذه المصطلحات البلاغية، «فالحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له. والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة»(ص95)، وهذه دلالة مباشرة بخلاف الكناية والتعريض «فلا يدلان على المكنّى عنه والمعرَّض به وإنما لهما بهما إشعار يحتاج إلى قرينة أو نيّة»(ص95). والكناية قد تكون من الحقيقة أو المجاز؛ لأنه ليس سوى إخفاء للفظ وتعبير عن معناها؛ إذ «الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له»(ص99)، ومن هنا هي «إمّا حقيقة خاصّة، وإما مجاز خاص»(ص100)، وأما التعريض فخلاف التصريح فهو «أن تذكر شيئًا تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلّم عليك، ولأنظر في وجهك الكريم ... وكأنّه إمالة الكلام عن عُرْض يدل على الغَرَض»(ص100)، وهو يقع من حيث الدلالة والمجاز بحسب معناه، وأما التفطّن إليه وإدراك مراد صاحبه فمتعلق بفهم المخاطب وفطنته.
والمدهش في رسائل التراث جمعها بين غزارة الفكَر وعمقها وجمال السبك الذ ي يبهج النفس ويسر الخاطر، فلعل أبناءنا من الباحثين يطلعون عليها لتذكي مهاراتهم وتهذب لغة كتاباتهم.
(1) قراءة الجمهور بفتح العين وتخفيف الميم، وقرأها بضم العين وتشديد الميم الأعمش، وجناح بن حبيش، وأبوزرعة، وأبورزين، العقيلي، وأبوعمرو بن جرير، وقتادة، وأبوالمتوكل، وعاصم الجحدري. انظر: معجم القراءات، لعبداللطيف الخطيب، 7: 56- 66.