فيصل أكرم
هل نحن – في وسائل الإعلام والثقافة العربية - نهدر أعمارنا ونكرّس أعمالنا في شيء نكرهه ونفاخر إذا انتصرنا عليه، في الوقت نفسه؟!
منتهى التناقض نعيشه ونسكت على إيذائه لنا، بشكل يكاد يشابه دفننا ونحن أحياء.. وكأننا الراضون بإيذاء أنفسنا في أعمق نقطة منها.. الهوية.. الهوية العربية.. اللغة. نكتبُ شعراً ونثراً وأدباً وفكراً ونقداً وسياسة أيضاً.. بماذا؟ ومن أجل ماذا؟ نكتب بلغتنا العربية ونقرأ كتابات بلغتنا العربية ونعيش في زهو النشوة بإصدارات الكتب العربية ومعارض الكتب الدولية في البلدان العربية؛ وفي الوقت نفسه عندما ننزل في (فندق) أو ندخل (مطعماً) في أي دولة من دول الخليج (العربية) نجد أنفسنا مرغمين على نسيان لغتنا - هويتنا – تماماً، والتحدث بلغة (أجنبية) وكأننا ننتشي بها!
من السهل جداً أن يقال إن اللغة (الإنجليزية) هي لغة عالمية، وإيجاد مبررات للشركات العالمية – كفنادق ومطاعم الدرجة الفاخرة – ولكن.. هل تلك المبررات في صالحنا، نحن أدباء وشعراء العربية حتى نردّ بها على خيبات آمالنا وتراجع مكاناتنا بصورة تتجاوز التهميش إلى الإلغاء؟؟
في آخر الإحصائيات، الصادرة رسمياً عن أجهزة استخباراتية شديدة الدقة – أو يفترض بها ذلك – حول أكثر عشر لغات انتشاراً في العالم، جاءت الألمانية في المرتبة العاشرة والفرنسية في المرتبة التاسعة، بينما العربية تتقدمهما وتحتل المرتبة الرابعة.. صحيح أن الإنجليزية هي الأولى بلا منافس، ولكنني أتحدى أن يوجد في قلب برلين عاصمة ألمانيا أو باريس عاصمة فرنسا موظفٌ واحد بأيّ فندق يمارس عمله الطبيعيّ في استقبال أو خدمة النزلاء وهو لا يستطيع التحدث بلغة الدولة التي يعمل فيها.. فرنسية كانت أو ألمانية.. فلماذا عندنا فقط، في دول (الخليج العربي) كلّ الفنادق والمطاعم وشركات النقل جميع موظفيها لا يستطيعون فهماً ولا نطقاً لأيّ كلمة عربية؟!
نجد العذر للمستشفيات والمراكز الطبية والصيدلية، وكذلك المنشآت الصناعية والمعنية بالتقنية، فهي مكتوبة باللغة العالمية الأولى (الإنجليزية) ولكنّ حديثي هنا عن متعلقات وضرورات الحياة العادية الطبيعية، من نزلٍ ومعيشة، فمن غير الطبيعيّ أبداً أن تستحيل عليك باللغة العربية في بلدان تضع (العربية) في منتصف أسمائها الرسمية، ولا أقصد دولة دون غيرها بل دول الخليج (العربية) الست، بالمجمل، ولعل السعودية أقلها اعتماداً على اللغة الإنجليزية وأكثرها احتراماً للغة العربية، بينما (الإمارات العربية المتحدة)، مثلاً، قد أصبحت وكأن الإنجليزية لغتها الأساس، حتى بات من يطلب التعامل الطبيعيّ باللغة العربية يثير استغراب موظفي (الخدمات) من حوله، سواء كان في فندق أو مطعم أو مطار أو سيارات الأجرة؛ فتصدمه الردود بقسوة: (نو أرابيك)!
في مقالة عنوانها (قرارُ اللغة) منشورة هنا، في الجزيرة، بتاريخ 20 يونيو 2015 تكلمتُ عن واقعة طريفة حدثت في الرياض، أثناء حفل تدشين فرع لمنشأة اقتصادية (عالمية) حين ألقى ممثل (الصين) كلمته باللغة (العربية) بينما ألقى المسؤول (العربي) كلمته باللغة (الإنجليزية)؛ وأعتقد الآن أننا بحاجة إلى الصراخ وليس كتابة مقالات وحسب، حتى يصل رفضنا التضييق على هويتنا العربية لكل المسؤولين في دول الخليج العربية، حتى يكون منهم أخذ بعض قرارات ضرورية، مثل اشتراط (ضمّ) اللغة العربية إلى قائمة اللغات التي تستخدمها المنشآت التجارية (العالمية) التي يحتاجها الإنسان العربي في دول (الخليج) العربية.
ولا أجد خاتمة لكلامي هذا أفضل من (الشك)!. فمن كثرة المواقف التي مررتُ بها – وفقاً لواقعي الفارض عليّ التعامل الدائم مع الفنادق والمطاعم أينما كنتُ – أستطيع أن أشكّ شكّاً خطيراً.. بأن إدارات تلك المنشآت العالمية العملاقة تمنع موظفيها من التحدث بكلمة (عربية) واحدة، أو حتى محاولة فهمها، في دول الخليج (العربية).. فهل نسكت؟ وإلى متى؟ وماذا سيكون مصير لغتنا في دولنا إن طال سكوتنا حتى نموت، وتأتي أجيالٌ جديدة تربَّت على السكوت.. عربياً.. وإتقان التباهي بكلمات أجنبية؟!
لن أستعير مقولة الرافعي، رحمه الله، في أنّ ما من لغة ذلّت إلا وذلّ شعبها. ولن أضرب مثالاً باللغة (العبرية) وكيف تحولت من (دينية) ميتة إلى (علمية) حية رغم محدودية الناطقين بها؛ ولكني أطالب فقط.. أطالب برفض عبارة (نو أرابيك) في خليجنا العربي.. فقد تفشّت حتى أصبحت معتادة، وطال سكوتنا عليها حتى أصبح معتاداً!