د. فوزية البكر
قبل سنوات كنت أقف في متجر كبير في نيويورك أتسوق احتياجاتي اليومية من حليب وخبز وغيرها وإذ أقبلت على الكاشير باغتتني السيدة تسألني هل لديك أكياس لحمل حوائجك أم تريدين شراء أكياس؟ (طبعاً فأجاني السؤال تماماً فمن الناحية الثقافية أنا معتادة في كافة سوبر ماركاتنا وحتى محلات التجزئة الصغيرة أنه توجد هذه الأكيس البلاستيكية البيضاء أو الزرقاء بل وتحمل بعد تعبئتها من قبل عامل المحل إلى سيارتك مقابل دارهم معدودة).. النساء الأمريكيات من حولي ضحكن على السؤال الساذج وقالت واحدة: ذهب الزمن الذي كنا نأخذ البلاستيكيات مجاناً وذلك حماية للبيئة لذا نحتفظ بالأكياس لإعادة تدويرها.
حصل الأمر نفسه في فيينا الجميلة وفي إيطاليا وبرشلونة وجميلتي بوسطن: في كل دول العالم المتحضر توجد قوانين لحماية البيئة تتداخل مع ممارسات الإنسان في حياته اليومية وتجعله واعياً بها وممارساً لها شاء أم أبى حتى تتحول تدريجياً إلى سلوك فهناك عقاب واضح لمن يرمي كيساً في عرض الطريق بحيث تحول هذا الأمر إلى عيب اجتماعي وسلوك ينم عن عدم الوطنية، كما توجد براميل النفايات الكبيرة الملونة والتي تم فرزها حسب النوع لإعادة التدوير الذي يراه المواطن أمامه في كل حركة فيتبناه تدريجياً ليصبح سلوكاً يومياً.
شكراً، شكراً للرؤية الجديدة التي انتبهت إلى حتمية موضوع البيئة الذي لم يعد من الممكن تجاهله ونحن نشهد هذه التحولات المناخية المخيفة علينا وعلى العالم كله من مطر في مايو في السعودية إلى أعلى درجة حرارة في القاهرة ليوم 15 مايو (46) هذا العام والتي لم تشهدها في تاريخها في هذا الوقت إلى جفاف كامل في أنحاء عديدة من الهند أجبرت سكان قرى بكاملها إلى الرحيل إلى حرائق هائلة تلتهم كل ما أمامها في كندا إلى فيضانات في إفريقيا.
عالم أتعبته الحياة البشرية بكبر حجم استهلاكها البشري لموارده وعدم الوعي بأهمية تدوير هذه المخلفات لأعادة حفظ النظام البيئي الذي أوجده الخالق لاستمرار البشر في عمارة هذه الأرض.
مشكلتنا المحلية مع البيئة ليست قليلة للأسف ويعمقها عدم الوعي الشعبي والرسمي ولاحقاً التربوي بحجم وبخطورة المشكلة وما ذا يجب أن نقوم به لإعادة تهيئة المجتمع تدريجياً وخلخلة حياته ليتداخل البيئي في قراراته اليومية فهل يستخدم السيارة للمسجد أو يمشي كممارسة جيدة لصحته وحفظاً للطاقة؟.. هل يسحب لي الماء ويبدء بخرطومه الواسع مبدداً الماء هنا وهناك لتنظيف سيارته ومقدمة بيته أم يكتفي بالتمسيح وهو ما يوازي المجهود الجسدي الذي يصرفه في الجم.
كل الدراسات تؤكد أن المياه هي الحرب القادمة في منطقتنا فرغم شراسة الحروب العرقية والدينية والمناطقية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط اليوم إلا أن المشكلة الحقيقية هي في توفر الماء من عدمه وكيف نحميه بدل هذا الإفراط الذي خلخل البيئة الجوفية بسبب السحب الجائر من الآبار أضافة إلى التكلفة العالية لتحلية المياه والتي قد لا نقدر عليها لاحقاً مع انهيار أسعار النفط.
لا يمكن لنا أن نعيش (بالاعتماد على منتجات الآخر القادم من الصين أو أمريكا أو غيرها) التنمية المستدامة تعني قدرة المجتمعات على محاولة الاكتفاء الذاتي بتحوير ما تملكه فعلاً وخلق منتجات متوائمة مع البيئة ودائمة لا تضر بالبشرية.
كيف لنا ذلك إذا كان معدل استهلاكنا في المملكة للمنتجات البلاستيكية هو الأعلى في العالم، وإذا كانت مناطق كاملة بحرية وبرية قد تم تدميرها بسبب الاستيلاء الجائر أو جرف التربة أو التسوير أو الإهمال وعدم الوعي برمي المخلفات إلى البحر من قبل قوارب الصيد أو السفن العاملة هناك.
تتجلى أخطار النفايات والبلاستيك على وجه الخصوص في أنه صعب التحلل في التربة ويمكن أن يأخذ حتى خمسين سنة لقارورة ماء بلاستيكية صغيرة أن تتحلل.
الكثيرون بلا شك ممن زاروا مناطق المملكة في جنوبها وشمالها شاهدوا الأكياس البلاستيكية معلقة فوق هامات الأشجار بحيث تمنع عنها الشمس والهواء فتموت والحال نفسه مع هذه الأكياس الملقاة في البحر حيث وجدت كثير من عناصرها في إمعاء أسماك البحر مما يسممها بفعل المواد الكيمائية التي تدخل في تصنيع هذه البلاستيكيات.
قضيتنا مع البيئة في السعودية ليست فقط مبالغة في استخدام البلاستيكيات فهذا فقط نموذج بيئي صارخ لكن الوعي البيئي يتمدد ليشمل الوعي باستخدام الكهرباء (كما نفعل في يوم الأرض) حيث نحاول إطفاء ما لا نحتاجه من إضاءة وهو المفهوم الذي بدأ تدريجياً يتداخل مع وعي الناس بعد التهديد برفع أسعار الكهرباء لكن تظل الممارسات اليومية داخل المؤسسات الرسمية هو ما ينقل السلوك إلى المنزل، فالأبواب الكهربائية الموجودة في مداخل الأبنية العامة مثلاً يمكن استبدالها بأبواب تدفع من قبل الإنسان حفاظاً على الطاقة والأنوار والمكيفات الهائلة الموجودة في قاعات ومباني المؤسسات يجب أن تتبع لما يسمى المباني الخضراء التي تطفئ أنوارها تلقائياً عن طريق التحسس إذا لم يوجد أحد والأمر نفسه بالنسبة للمكيفات أو للتدفئة.
تصور كم سنوفر في الطاقة لو تم تنفيذ ذلك في جامعاتنا ومباني الحكومية والخاصة؟ قضية البيئة قضية مصيرية وليست ترفاً يتسلى بالحديث حوله المثقفون والمتعلمون: إنه حياة أبني وأبنك وأجيال قادمة على هذه الأرض ولا أعرف في الحقيقية كيف نجعل الفرد يتماهي ويفكر في البيئة قبل كل سلوك؟.. تصور لو فعلنا ذلك: كم من الملايين من الطاقة المهدرة سنحفظ وكم من المشكلات المناخية والزراعية والاجتماعية ستختفي فلا تواجه الأجيال القادمة التي ستخلفنا على هذه الأرض.