د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** رفض ابن عباس - رضي الله عنهما - سماعَ «بشير بن كعب العدوي» وهو يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وسُل عن ذلك فأجاب: «كنا إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله ابتدرته أبصارُنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف».
**لم يقف الأوائل هنا بل اعتنوا بمعادلة « القائل والمقول» وصار لمن يُروى عنهم الحديث وزنٌ يعدلُ صدقهم وموثوقيتهم، وأصبح علم الجرح والتعديل من أجلِّ العلوم، وضُمَّ التأريخ مع الحديث كي يُنفى المدلسون والإخباريون.
** اليوم كثر القول والتقول والنفي ونفي النفي والتعمية على النشء والتغرير بالعامة بينما تراجع علم الجرح والتعديل إلى الدرجة التي لم يعد يُسأل عمن قال؟ وماذا قال؟ ولماذا قال؟ وإن كنا نحاول تجلية الصادق من الكاذب بالحدس الخاص، وقد نزيد توثقًا بالاستماع والقراءة، وحين نخشى التسرّع فإننا نفتش في سلوك المستهدفين ومسيرتهم ونقارنُ أقوالهم بأفعالهم ليميز الحقيقي من المزيف والمخلص من المدَّعي ومن يخشى الله ممن يتملّق الناس، وهذا سلوك وقائيٌ يعتمره بعض «المبصرين» قد يحول دون الانخداع بالعناوين التي يتوارى خلفها مدَّعو الإصلاح والنزاهة في زمنٍ فاض حكّاؤوه وقلَّ عاملوه.
** هنا تجيءُ فتوى القلب وتوظيف العقل دلالةَ وعي بالمقدرة على المحاكمة والعدالة في الحكم شاملةً أعمالَ الحياة والتعاملَ مع الأحياء ومصطفةً خلف الإشارات الدلالية للحديث الكريم؛ «فالبر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر»، ويكفي حوله ما قاله شراحه فلا مزيد.
**وعلى المدى التأريخي يلوذ المدلسون ببعضهم ويحتمون بمقدرتهم على قلب الحقائق وتشويهها ولا ينفكون عن افتراش الطرقات العامة كي يُسوقوا لافتراءاتهم ويمنحوها ضجيجًا يجعل مؤْثري الهدوء ينأون عنهم، وقد يَفترض بعضنا أن هذا هروب من المواجهة أو توفيرٌ للصحة والأعصاب، وهو كذلك مثلما هو مسار سلكه علماء الجرح والتعديل الذين أعرضوا - كما نقل الإمام الذهبي 673-748هـ في كتابه « تاريخ الإسلام - عن كشف حال قومٍ خوفًا منهم، وأورد هذا عند ترجمته لداوُد بن علي بن عبدالله ابن عباس عم المنصور والسفاح.
** ابتُلينا بمن لا يثق فيهم ذووهم ويكرههم عارفوهم ويكشف ضحالَتهم تابعوهم متصدرين المشهد الإعلاميَّ والمجتمعي، والمقارنة مؤلمة بين توثيق السلف وتلفيق الخلف؛ فقد قيل عن صاحب «تاريخ الإسلام وسِير أعلام النبلاء» إنه قد سُمي الذهبي بسبب مهنة والده وإنه كان يزن الرجال كما يوزن الذهب دقةً وجودةً فكَتب التأريخَ بمنهج المحدِّثين، وليته عاش في زمننا لنرى نبلاءه من يكونون، وليت» الجرح والتعديل»يُقرُّ في المنهج المدرسي كي يعي الشباب ما يتلقون.
** القائل مقدم على القول.