يوسف المحيميد
غالبًا ما تنجح الفنون في مختلف أشكالها في التعبير عن الأزمات التي تحيط بالبشرية، من حروب وكوارث وأوبئة؛ فالأدباء والفنانون في مجالات التشكيل والنحت والفوتوغراف والموسيقى تذوب أرواحهم في المأساة؛ فلا يخرجون منها إلا بالتعبير عن هذا العالم المنكوب من خلال ذواتهم المأزومة؛ ليتركوا لنا أهم الروائع الخالدة، كلوحة مذبحة الأبرياء لبيتر بول روبنز، التي عبَّر فيها عن حكاية هيرود الروماني ملك يهوذا الذي أمر جنوده بذبح الأطفال المولودين كافة في بيت لحم خوفًا من أن يكون أحدهم هو المسيح - عليه السلام - الذي سينازعه على الحكم. كذلك جدارية «غورنيكا» الشهيرة لبابلو بيكاسو، التي عبَّر خلالها عن مدينته غورنيكا التي تعرضت لقصف مدمر، قامت به طائرات حربية ألمانية وإيطالية من ثلاثينيات القرن الماضي. ولوحات عالمية أخرى بقيت خالدة لقرون طويلة، احتضنتها المتاحف العالمية، وتأملها ملايين الزوار من السياح.
على المستوى العربي، ونظرًا لحالات الحروب الطويلة التي دخلتها معظم الدول، سواء مما كان يسمى دول المواجهة في الصراع العربي - الإسرائيلي، أو في الحروب الداخلية الراهنة، التي ما زالت بعض الدول تعاني منها، كالعراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، والسودان وغيرها، فقد أنتج فنانوها عشرات اللوحات التشكيلية، معظمها مباشرة ومصطنعة ومتواضعة المستوى، مع استثناء بضعة فنانين نجحوا في ذلك، كالعراقي أحمد السوداني، والسوريَّيْن تمام عزام وسعد يكن، وغيرهم.
وفي حين نجح بعض الفنانين المصريين في تصوير الحروب والحياة الشعبية المصرية فشل بعضهم في استلهام الحرب، ولم ينصتوا لوسوسة ذواتهم المأزومة، الذوات المأخوذة بموت الإنسان ودمار مدينته، وإنما أنصتوا لصوت الإعلام الرسمي والأناشيد الوطنية، الصوت العالي المخادع؛ فانعكس ذلك على لوحات تجسد الجندي والسلاح والقوة والنصر، بينما الحروب في العموم هي حالة ضعف وفشل وانكسار وموت، حتى بالنسبة للمحاربين أنفسهم!
أما على المستوى المحلي فقد انشغل كثير من الفنانين بلوحات من فئة «تكوين» و»حروفيات» وما شابه ذلك، لوحات لا تحمل نكهة المكان، ولا رائحة التاريخ، رغم أن أكثر هؤلاء الفنانين عاش طفولة شعبية أو قروية، لكنها لم تنعكس على أعمالهم، ما عدا بضعة أسماء، من بينهم محمد السليم، عبدالجبار اليحيا وضياء عزيز، حتى وإن اختلفت أساليبهم. في المقابل، هناك من أنجز هذه البيئات بلوحات تصويرية مباشرة، غير تعبيرية، ولا تمتلك جرأة الفن ومغامراته.
فلِمَ لم ينجز أحد الفنانين لوحات تصوِّر الحوادث والحروب القبلية مطلع القرن الماضي، الموجودة في كتب التاريخ والمذكرات، بل في تاريخنا المعاصر، كتصوير حالة الخوف والقلق للأسر السعودية في حرب الخليج الثانية، وغيرها؟ هي مجرد هواجس توسوس بها ذاتي المتسائلة!