محمد بن عيسى الكنعان
أكبر تحدٍ يمكن أن يواجه أي شعب يسير بخطوات حثيثة على درب الرقي الحضاري، هو التحدي المرتبط بمسألة (الهوية)، ولا يقصد هنا (الهوية الوطنية)، التي تعبر عن الانتماء الوطني (الجنسية) وفق حقائق أصل العائلة وبيانات المولد والنشأة. إنما يقصد بها (الهوية الثقافية)، فأي شعب، أو دولة، أو حتى أمة لها خصوصية ثقافية، ولا يمكن التعبير عن هذه الخصوصية إلا بالهوية. التي تتشكل على أرض الواقع، متمثلة بالطابع العام، أو الصبغة السائدة لهذا الشعب أو تلك الأمة، فنجد مظاهرها وتجلياتها في تفاصيل الواقع اليومي المعيش، حيث نجد (الهوية الثقافية) سمة جلية للشعائر والمناسبات الدينية، والقاسم المشترك لكل العادات والتقاليد، والآداب والفنون والعلوم الإنسانية، والعلاقات السياسية، والممارسات الاقتصادية، على مستوى الحياة اليومية، والمجالات التنموية.
هذه الهوية ليست نمطًا ثابتًا، أو شيئًا جامدًا، إنما تقوم حركتها التاريخية وتطبيقاتها الواقعية على بعدين أحدهما ثابت مرتبط بجوهرها، والآخر متغير مرتبط بتفاعلها، فيعبر عن الثابت بـ(الجذور الأصلية)، التي تتمحور في الثوابت الدينية كالكتاب المقدس، والشريعة، والثوابت العرقية كاللغة والدم، أما البعد المتغير فيعبّر عنه بالحالة المدنية، أو التطور الاجتماعي الذي يعيشه المجتمع أو الدولة أو الأمة، بحيث تشكل الهوية في هذا البعد طبيعة التفاعل المدني مع العصر بكل منتجاته المادية وأفكاره وتحولاته الاجتماعية. وبهذا فالهوية هي عملة لوجهين هما: (الأصالة والمعاصرة)، لا تتحقق إلا بهما، ولا يمكن إلغاء أحدهما للآخر.
وبالنظر إلى مجتمعنا السعودي، الذي يعيش حالة مدنية متسارعة في تطورها الاجتماعي، ومتفاعلة بشكل كبير مع المنتجات العصرية من ماديات وأفكار وتقنيات، يمكن أن نسأل: هل نعيش أزمة هوية؟ بمعنى: هل يعيش مجتمعنا السعودي أزمة هوية ثقافية؟ خاصة في ظل الجدل الفكري المتجدد بين تيارات فكرية، سواءً على مستوى التحولات الاجتماعية التي تفرضها - بأمر الله - الحتمية التاريخية، وبالذات ما يخص تطور العلاقات التكاملية بالأدوار والوظائف بين الرجل والمرأة، أو على مستوى التعاطي مع العالم الخارجي المختلف عنا عقديًا، أو مذهبيًا بكل تحولاته السياسية والاقتصادية والثقافية.
برأيي أننا لا نعيش في أزمة هوية فعلية؛ لثلاثة أسباب واقعية ولا يمكن تجاوزها، الأول؛ أن طبيعة الدولة السعودية التي يعيش المجتمع في إطارها، قائمة على أساس ديني، وبالتالي فـ(هويتها الثقافية) محسومة لصالح المرجعية الإسلامية، من حيث التشريعات والقوانين المستحدثة بغض النظر عن التباين في الموقف الفقهي، أو حتى تعارضه بين رأي شرعي وآخر داخل دائرة المؤسسة الدينية، أو حتى خارجها من قبل أصحاب الآراء الفقهية المستقلة. السبب الثاني أن أغلبية المجتمع السعودي - إن لم يكن جميعه - يعتز بهويته الثقافية المستمدة من دينه، كما يعتز بتاريخه الإسلامي الذي يمثل تجربته الحضارية الأصلية، ودورها المحوري في الحضارة الإنسانية عمومًا، أما السبب الثالث فيعود إلى أن الجدل الفكري - الذي يتحول أحيانًا - إلى صراع فكري بين التيار الديني وما يسمى التيار الليبرالي مازال محصورًا في قضايا اجتماعية معاصرة، وعادة ما ينتهي ذلك الصراع إلى تحديد الكيفية التي سيتم فيها التعاطي مع هذه القضية أو تلك وفق المرجعية الإسلامية، وذلك بعدم الاحتكام إلى رأي فقهي واحد للتعامل معها وتطبيقها على أرض الواقع. ما يعني من كل ذلك أن الهوية الثقافية لمجتمعنا السعودي ما زالت في مأمن بحكم أن التطلع الليبرالي لم يصل بعد إلى مرحلة استبدال المرجعية الإسلامية لهذه الهوية بأخرى وضعية؛ لإدراكه أن ذلك تعدٍ مباشر على كيان الدولة، وتهديد لأساس مكونها السياسي، ولو تحول ذلك التطلع إلى رغبة فعلية - هنا فقط - يمكن أن نقول: إننا في أزمة هوية لا قدر الله. أما استمرار التيار الليبرالي في جدله أو صراعه مع التيار الديني حول مسائل دينية أو قضايا اجتماعية فهذا ما يعزز هويتنا الثقافية، لأنه سينتهي إلى الاحتكام إلى المرجعية الإسلامية لهذه المسألة أو القضية حتى لو حاول البعض تلبيسها بإطار تغريبي أو تمريرها بغطاء عصري.