حمد بن عبدالله القاضي
كم هم الشعراء السعوديون المعاصرون الذين رحلوا ولا يعرف عطاءاتهم وإبداعاتهم إلاّ قلة من القراء والنقاد ربما لأنهم كانوا بعيدين عن الأضواء، فقد كان «الإبداع» رسالتهم دون الظمأ لشهرة أو تسوّل ثناء.
من هؤلاء الشعراء الشاعر المكي الكبير محمد عبدالقادر فقيه الذي ولد بمكة المكرمة وعاش ونشأ وعمل فيها ولم يفارق «أم القرى»، وهو ينتمي إلى أسرة مكية كريمة فاضلة، وقد انتقل لرحمة الله عام 1430هـ ودفن في المدينة التي أحبها - رحمه الله -.
***
أرحل بكم في قراءة لبعض قصائد هذا الشاعر الكبير محمد عبدالقادر فقيه الذي غادرنا بعد أن أثرى ساحتنا الشعرية بقصائده العذبة التي نسجها من خيوط التجارب، ومشاعل المحبة، وهو رغم شعره - الجزل- لم ينل - رحمه الله - حقه من الذيوع والشهرة ربما لأن طبيعته كما تشي بذلك بعض قصائده الزهد بالذيوع، فهو له رسالة بالحياة أدَّاها خير أداء، ورسالة بعالم الشعر أبدع فيها عبر قصائد متوشحة بالصدق ما بين دروب الأمل والجمال، وقد صدر له «مجموعته الشعرية» التي قدم لها الأديب الراحل عبدالعزيز الرفاعي - رحمه الله - وصدر قبلها ديوانه «طيوف الماضي»، وقد أطلق عليه عدد من النقاد «رافعي السعودية».
***
أذكر أول قصيدة قرأتها كان عنوانها «أقول للنفس» وقد شدتني كثيراً لصدقها وجمال أسلوبها وفضاءات الأمل فيها التي انتصر فيها على ظلام اليأس.
أكافح اليأس في روحي وقد بردتْ
فيها المنى وذوت أحلامها القُشُبِ
وأرسل الضحكة البيضاء داوية
والقلبُ يُعْوِل في صدري وينتحبُ
وكم تجمّلتُ حتى قيل ما فتئت
ترتد خائبة عن صبره النُّوَبُ
وكم تجاهلت آلامي فقيل فتًى
ما آد كاهله همٌّ ولا وصَبُ
أقول للنفس صبرًا كلما جزعت
من المسير على الصحراء تلتهبُ
ما زلت أُوسعها زجرًا وتتبعني
حتى برى قدمينا الشوك والنصبُ
***
**وبعدها بدأت أقرأ إبداعاته الشعرية الباذخة أسلوباً ومضامين قوية تضخّ في قلب قارئها أشعة الخير والنقاء والفأل ما بين قواف تنسج الحب الشفيف، وقصائد تتخضب بتجارب الحياة، وأبيات تحلق بمدارات العطاء.
هذا الشاعر انطبق عليه وصف النقاد له «شاعر الوجدان» فكثير من قصائده نجد فيها فيض «العاطفة» ووهج الحس.
في قوافيه رسالة اصطبار للقلوب وشلال يضخ السنا، ويبدد الأشجان بنور الحب.
وهذه إحدى قصائده «الذات المحبة» من ديوانه «أطياف الماضي» تطرّز هذه المعاني الجميلة، والمحبة الراقية:
الحب يسمو ويعلو والجميع سدًى
يا ربِّ فاجعل فؤادي والهاً أبدا
واجعل من الحب شلاّلاً يضخّ سنًا
على حياتي.. فيمسي حزنها بددا
بالحب يرتفع الإنسان منزلة
ويستحيل به جمر الغضى بَرَدا
والقفر يزهر منه.. والأُلى نهلوا
من نبعه مرّةً ما يشتكون صدى
***
هذا الشاعر لم تشغله دنياه الخاصة عن هموم أمته، وهو لم يركب قارب كثير من الشعراء المثبِّطين، بل رأى أن لأمته غداً مشرقاً رغم كل الإحباطات، كيف لا وهي تتكئ على تاريخ مضيء، وماضٍ حافل بالعز والانتصارات.
هذه إحدى قصائده التي توقظ الأمل في الوجدان وتشعل النور في طريق أمته العربية لترحل من ظلام تعيشه في حاضرها وسط احترابات وانقسامات، لكنه ينظر إلى أمته من منظار آخر فهو يتطلع لوحدتها وانتشار السلام في ربوعها وانتهاء احتراباتها.. إنها «رسالة» أمل من هذا الشاعر السعودي العربي لأبناء أمته للنهوض من خيمة الإحباط إلى رحابة الآمال.
وحتى عنوانها يكرِّس معاني النهوض.. «وانطلقنا»:
وانطلقنا.. تزحم الدّربَ رؤانا
من سنا الماضي وأمجاد صبانا
نحن.. مَن نحن.. لهيبٌ وسنا
لم يزدْنا العنف إلا عنفوانا
الجبال الشُّمُّ كم قِلْنَا بها
والنجوم الزهر كم شامت سرانَا
والرسالاتُ لنا أمجادُها
ودعاة الحق منا منذ كانَا
رُبّ يومٍ زحَفَتْ رايَاتُنا
تُشبع الظلم ضِراباً وطِعانا
وتقيم الحق في الدنيا صُوى
ومناراتٍ على إثر خطانَا
وانطلقنا.. تزحم الدرب رؤانا
من سنا الماضي وأمجاد صبانا
نحنُ مَن نحنُ? إباءٌ شامخٌ
وسيوفٌ ما ارتضتْ يوماً هوانَا
في ضمير الغيب أمجادٌ لنَا
لم تزل ترقبُ مِن دهرٍ صَدانا
وانطلقنا.. تزحم الدّرب رُؤانَا
من سنا الماضي وأمجاد صبانا
***
وبعد:
أدعو عبر منبر «المجلة الثقافية» إلى التفات النقاد والأدباء إلى مثل هذه القامات الشعرية التي لا يعرف القراء إلاّ القليل عن إبداعاتهم ونصوصهم .. أدعوهم للعودة إلى «دواوينهم» ومجموعاتهم الشعرية لقراءتها ولتقديم دراسات أدبية تليق بها وبشعرها لتجلية الإبداع فيها، وليدرك الجيل الجديد أن هذا الوطن «منجم للشعر والأدب» ولكن كثيراً من مبدعيه لم ينالوا حظهم من الدراسات التي تبلور مخرجاتهم الشعرية أمام القراء، فقد انصرف عدد كبير من النقاد السعوديين للعناية بعديد من الشعراء العرب تاركين دواوين شعراء سعوديين كثر خارج تناول أقلامهم ونقدهم.