د. فوزية البكر
كنت في طريق (أبو بكر الصديق) بمدينة الرياض حيث لا شارع في العالم قد فُتحت أشلاؤه لأزمان طويلة مثل هذا الشارع المأزوم. اليوم الاثنين: أول الشهر الكريم، والساعة هي الواحدة ظهرًا، والسيارات المتراصة في تدافع مخيف، تكاد تقفز فوق بعضها من شدة الزحمة والحر وضيق الشارع الجانبي بسبب حُفَر النفق. وبدأ الكل يطل من نوافذ سيارته منددًا؛ فهذا العامل المصري الأسمر يصرخ في غضب ملطخ بالسباب، وذاك السائق الباكستاني المتمرس في اللفلفات حول السيارات، والفلبيني الذي يبدو من أدبه أنه جديد على حفلة الصراخ والشتيمة؟
تفكرت في كل ذلك وأنا أراقب بعض مظاهر العنف التي تتكرر باستمرار، والتي يمكن ملاحظتها في التعاملات اليومية الحادة، وفي القسوة والفظاظة والاستعداد للدخول في مشاجرات لأتفه الأسباب عند كل إشارة، وفي كل محل. هذا كله غيض من فيض مقارنة ببعض حوادث العنف التي سمعنا عنها، مثل تلك التي حدثت قبل أسبوع من رمضان جنوب مدينة الرياض، وراح ضحيتها ثلاثة من أفراد عائلة واحدة، أو تلك الحادثة البشعة التي ارتكبها 3 من شبابنا تحت تأثير المسكر والمخدرات؛ إذ قاموا بالتعذيب ثم الحرق ثم القبر الجماعي لخمسة عمال أحياء، إلى حوادث القتل التي ارتبطت بالإرهاب، وأشهرها تلك التي يسترحم فيها شاب صغير من حائل ابن عمه كي لا يقتله!
السؤال: ما الذي أوصل معاملاتنا العامة وحتى بعض الخاصة إلى هذه الدرجة من العنف والقسوة؟ ما الذي جعل الرغبة في التسيد والتسلط هي الدليل على الرجولة والمواطنة والبداوة المشرفة؟
الحديث في الأسباب يطول؛ فقد تكون جزءًا مما يسمى بالثقافة السائدة بأن الرجولة تعني الاستئساد على الضعفاء، الذي يمكن ملاحظته - مثلاً - في تعامل عامة السعوديين مع العمال الأجانب.. كما تعني التغني بالقبيلة وبرجولتها؛ ما يعني أن أي نقد لأي شكل أو قيمة قبلية قد يدفع إلى العنف الذي تبرره ثقافة سائدة تحرس الحس القبلي عبر معرفات الهوية وتكافؤ النسب والاسترجال على كل من يمس شرف القبيلة (الوهمي). وهم يعيشون اليوم في ظل مجتمع مدني تحكمه قوانين المدن ووثائقها، لا وَهْم القبيلة، ومع ذلك، ومع كل هذا الوَهْم، فقد أجازت قيم العنف القبلية والذكورية (وفي عقولهم فقط) قتل أشقاء في نجران لشقيقتهم بضربها حتى الموت قبل أيام قليلة.
نعرف أن هذه الجرائم الكبيرة سيتصرف فيها قانون بلادنا العادل الذي لا يجيز قتل النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بالحق، ومن ثم سيدفع القتلة ثمن رعونتهم وبطشهم وجورهم الرجولي والقبلي.. لكن هل كان بالإمكان تدارُك بعض هذه الأفعال المرعبة؟ لماذا يمكن أن تؤدي مشادة تافهة إلى مرحلة القتل المحرمة؟
الغضب والاختلاف من سنن الحياة الطبيعية، بل ينظر إلى الاختلاف على أنه أحد العوامل التي تدفع إلى الابتكار والبحث عن التفوق، أو عن حلول بديلة، لكنه في ثقافة لم تدرِّب أبناءها على التعامل مع غضبهم بطرق صحية قد يؤدي إلى مآسٍ لم يتوقعها الفاعلون أنفسهم، وهم - بلا شك - يموتون ندمًا الآن، ولكن بعد أن فات الأوان؟!
إذن: ما الذي يمكن لنا فعله؟ كيف نخفف من حقن الغضب والاحتقان التي تملأ نفوس السائقين وتلاميذ المدارس والزوجات والعاملات المنزليات.. إلخ، إلخ، إلخ.
أدبيات حل النزاعات - وهو ما يسمى في اللغة الإنجليزية (كونفليكت رزلوشن) - كثيرة جدًّا، وهي جزء من المناهج الدراسية في التعليم العام في كل مدارس الغرب؛ إذ يتم تعليم الأطفال والمراهقين كيف يتعاملون مع غضبهم أو إحباطهم أو الاستئساد عليهم من قِبل من هو أكبر عمرًا أو حجمًا منهم. نحن هنا نعتبر أن الحديث عن الغضب أو الإحباط شيء (مخجل)، ولا يليق برجل؛ ومن ثَمَّ فكلٌّ يتصرف حسبما يحتم عليه الموقف.. وكلنا أمل بأن يكون أطفالنا ومراهقونا عاقلين بدرجة تحميهم من ارتكاب حماقات قاتلة.
هذا لا يكفي. نحن اليوم في مجتمع كبير ومتنوع جدًّا؛ لذا يجب أن يتم تعليم الناس كيف تتعامل بحضارية مع هذه الاختلافات. ولعل المسجد ثم المدرسة المكانان الأكثر ملاءمة لتعليم ذلك. فلو تحدَّث خطباؤنا الأفاضل عن الطرق الحديثة التي يشجِّع عليها ديننا الحنيف للتعامل مع ضغوطات الحياة الحديثة لربما ساعد ذلك بعض مراهقينا على بث الرحمة في جنبات سلوكهم اليومي. ولو تبنت المدارس برامج حل المنازعات، وتم تدريب المعلمين عليها لنقلها عبر تدريسهم للطلاب، لربما ساعدنا تلاميذنا - وهم مواطنو المستقبل - بأن يتعلموا التحكم في النفس. ولو تبنت إدارات المدارس برامج واضحة لنشر ثقافة التسامح وقبول الاختلاف فلربما تمكنا من لجم هذا المارد الغاضب في داخلنا.
لنتذكر: رمضان هنا ليعيد تعليمنا كيف نصبر.. لنتذكر ذلك فقط!