فهد بن أحمد الصالح
إن انطلاقة رؤية المملكة العربية السعودية 2030 التي اعتمدت على ثلاثة محاور رئيسة هي: (المجتمع الحيوي والاقتصاد المزدهر والوطن الطموح) قد نجحت في أن تجعلها تتكامل وتتّسق مع بعضها في سبيل تحقيق الأهداف وتعظيم الاستفادة من مرتكزات هذه الرؤية من الناحية النظرية، وستكون أسهل في التطبيق من الناحية العملية، حيث يركز في المحور الثالث من الرؤية على القطاع العام، ويرسم ملامح الحكومة الفاعلة من خلال تعزيز الكفاءة والشفافية والمساءلة وتشجيع ثقافة الأداء لتمكين مواردنا وطاقاتنا البشرية وتهيئة البيئة اللازمة للمواطنين وقطاع الأعمال والقطاع غير الربحي لتحمل مسؤولياتهم وأخذ زمام المبادرة في مواجهة التحديّات واقتناص الفرص التي تمثل المنفعة الحقيقية المضافة.
وفي صورة أخرى من الشفافية والوضوح وحول تحمل المسؤولية الرسمية في تحقيق ذلك ورد في الرؤية، أن للمواطنين دوراً مؤثراً وإسهاماً كبيراً في العمل الخيري. وفي ذلك أكبر دليل على أن قيم العطاء والتراحم والتعاون والتعاطف الراسخة فينا، غير أن هذه المجهودات تحتاج إلى تطوير إطارها المؤسسي والتركيز على تعظيم النتائج ومضاعفة الأثر. ولدينا اليوم في المملكة العربية السعودية ما يقارب (1000) مؤسسة وجمعية غير ربحية، ولتوسيع نطاق أثر هذا القطاع، سيتواصل تطوير الأنظمة واللوائح اللازمة لتمكين مؤسسات المجتمع المدني، وسيوجه الدعم الحكومي إلى البرامج ذات الأثر الاجتماعي، والعمل على تدريب العاملين في القطاع غير الربحي، وتشجيع المتطوعين فيه، ومواصلة تشجيع الأوقاف لتمكين هذا القطاع من الحصول على مصادر تمويل مستدامة، ومراجعة الأنظمة واللوائح المتعلقة بذلك. والعمل على تسهيل تأسيس منظمات غير ربحية للميسورين والشركات الرائدة لتفعيل دورها في المسؤولية الاجتماعية وتوسيع نطاق عمل القطاع غير الربحي، وتمكين المؤسسات والجمعيات غير الربحية من استقطاب أفضل الكفاءات القادرة على نقل المعرفة وتطبيق أفضل الممارسات الإدارية. وسنعمل على أن يكون للقطاع غير الربحي فاعلية أكبر في قطاعات أخرى متنوعة، وهذا هو الدور الذي كنا نجده ضعيفاً جداً في مجتمعنا ربما لأنها ثقافة لم نعمل عليها وعلى تأهيل الشباب ليكونوا أصحاب مسؤولية اجتماعية، وربما أن النظام الرسمي لم يكن مرحباً في عقود مضت بذلك.
ومن أجل تعظيم الأثر الاجتماعي للقطاع غير الربحي الذي لم يتجاوز 3% من الناتج المحلي، فقد صدر نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذي عمل على جمع شتات مؤسسات ولجان وجمعيات المجتمع المدني لتكون تحت رعاية مالية وإدارية واحدة ووفق إشراف متعدد حسب التخصص، وذلك ليسهم في تمكينه من التحوّل نحو المؤسسية، مع التشجيع على إطلاق المؤسسات الأهلية غير الربحية بما فيها صناديق الأسر، والعمل على تعزيز ذلك بدعم المشروعات والبرامج ذات الأثر الاجتماعي وإطلاق صندوق خيري تتبناه وزارة العمل والتنمية الاجتماعية ليكون رافداً لتلك الجهات المتعددة في تشغيلها وإطلاق برامجها والتجديد في فعالياتها بما يحقق التوجه إلى أن يكون القطاع الأهلي قطاعاً تنموياً وتكون توجهات الوزارة تنموية وليست رعوية، ولكي تحقق رؤيتها من نقل جزء من المجتمع من الضمان إلى الأمان وجزء آخر من الاحتياج إلى الإنتاج لكي تتحقق التنمية الدائمة للقطاع الثالث، كما أن الرؤية جعلت من أهداف 2030 ما يلي:
o رفع نسبة مدخرات الأسر من إجمالي دخلها من 6 % إلى 10 %.
o رفع مساهمة القطاع غير الربحي في إجمالي الناتج المحلي من أقل من 1 % إلى 5 %.
o الوصول إلى مليون متطوع في القطاع غير الربحي مقابل 11 ألف متطوع حالياً.
هذه الأهداف لكي تتحقق لابد من بذل الجهد من جميع الأطراف سواء الرسمية أو الخاصة أو الأهلية التي هي في الأصل تقوم على عطاءات القطاعين العام والخاص، ثم كيف يتحقق للمجتمع رفع نسبة الادخار من 6 % إلى 10 % من الدخل وكيف يحقق القطاع الثالث غير الربحي هذه المعادلة إلا بطرح برامج تثقيفية في البداية لكي لا تغلب الكماليات على الأساسيات في الفئات التي يرعاها والتي كانت في الأصل تعتمد اعتماداً خاصاً على هذا القطاع المعتمد على غيره، ثم أن على القطاع أن يطرح برامج للشركة مع القطاع الخاص لخدمة الفئة المستهدفة وبما يحقق في النهاية ارتفاع معدل الادخار الذي يجب أن يكون ثقافة لكل الأجناس ودوام الحال من المحال حتى يتم تحول الأسر المنتجة إلى أسر مستثمرة، علماً أن تنمية ثقافة الادخار يعزز من ثقافة الاعتمادية على النفس وتنمية قدراتها وبالتالي تنمية مدخراتها وانتقالها إلى عدم الحاجة لأنها انطلقت إلى افق أوسع من العطاء لنفسها ومجتمعها وانتقلت من فرضية الاعتماد إلى حقيقة العطاء والمشاركة، كذلك يمكن من أجل رفع مستوى الادخار أن يعيد القطاع الثالث تدوير الخبرات وإعادة انطلاقتها عبر برامج تصمم لذلك مع صندوق الموارد البشرية ومراكز التدريب إضافة إلى طرح برامج ادخار مع بنك التسليف.
والحال كذلك في تحقيق هدف مساهمة القطاع الأهلي غير الربحي في الناتج المحلي ورفعها إلى 5 % بدلاً من 1 % والهدف الجديد ليس مرتفعاً ولكنه خطوة لتفعيل دور القطاع الثالث في الناتج المحلي عبر الكثير من البرامج والمشروعات وتقديم التسهيلات والقروض للمشروعات الصغيرة والمتوسطة وتبني الكثير من المبادرات وبراءات الاختراع وتقديم الدعم اللازم للكثير من الأفكار المتميزة التي تحتاج من يدعم أصحابها ويسهم معهم في إطلاقها كي تكون منفعتها ليست شخصية وإنما مجتمعية، وهذا كله وغيره هو التأثير المباشر في الناتج المحلي، مع تقديم الدعم للأعمال الحرفية التي أصبحت اليوم ذات قيمة وطنية وتقدم كهدايا على المستوى الرسمي، ولا يُنكر الدعم الذي كان يقدم للأسر المحتاجة أو الراغبة كي تكون أسراً منتجة وأسهم في نقلها من الفاقة إلى الغني والشواهد كثيرة لتلك المساهمات الرائعة للقطاع الثالث سواء الخيري أو الأهلي وما كان ينقصه إلى أن يكون مؤسسياً حتى يقاس أثره بصورة دقيقة تستحق أن نفاخر بها، كذلك يحتاج لكي يكبر أن يسوق له من الغرف التجارية وهيئة السياحة والتراث الوطني وكذلك الجمعيات والمؤسسات الأهلية التي تبنت مثل هذا الدعم وهي الأقرب إلى معرفة أثره ونسبة الإنجاز فيه، وهنا سيصبح بحق حقلاً جاذباً وبيئة منتجة.
وفي الهدف الثالث لا يشك أحد في الارتباط بين القطاع غير الربحي والتطوع، إضافة إلى أنه قطاع منتج وتنموي ويستفيد من خبرات المتطوعين له، لأن الانخراط فيه يمثل رغبة آخروية في الأجر ومنفعة الغير، ولكن لكي يتحقق العمل التطوعي في القطاع غير الربحي فإن هذا يعتمد بشكل مباشر على وجود منظومة معلوماتية تمكن المتطوع حسب تأهيله وخبرته ورؤيته واهتمامه من الانطلاق في البرامج التي يستطيع أن يحدث فيها أثراً إيجابياً يحقق من خلاله زكاة عمره وتأهيله وخبرته، ولعل وجود جميع مؤسسات المجتمع المدني بنشاطاتها المختلفة وأهدافها المتنوعة ستمكن وزارة العمل والتنمية الاجتماعية من إنشاء بنك للمعلومات يتمكن المتطوع من خلاله أن يحدد مساره التطوعي، وهذا يأتي مصداقاً للحديث النبوي الشريف «إن خير الناس أنفعهم للناس»، وبالتطوع ننقاد مختارين لخدمة الآخرين وتعظيم الأثر في توجيه الله سبحانه وتعالى لخلقه: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} (32) سورة الزخرف، كما أن فاعلية التطوع تأتي في تهيئة الأرضية السليمة والإطار المؤسسي للجهات المحتاجة لخدمات وخبرات المتطوعين مع وضوح الأداء وحجم الإنجاز الذي سيتحقق مع رؤية 2030 المباركة وحجم المشاركة حتى لا تتعرض أهداف القطاع الثالث للانقطاع بسبب عدم الاستمرار حتى إنجاز الهدف.
ختاماً، لا نرى أن القطاع الثالث سيخذل دولته التي مكنته بكل الوسائل من الانطلاق، ولا نرى كذلك القطاع الخاص سيتأخر عن دعم القطاع الثالث ليكون قطاعاً منتجاً ومساهماً في الناتج المحلي بالشكل الذي تطمح له الدولة، كما أن الدولة في رؤيتها تركز على الاستدامة والتنمية، وهذا دون شك سيحققه القطاع الثالث بعد أن أصبحت أكثر مؤسساته محققة لاستدامة فعالياتها عن طريق الأوقاف أو الاستثمارات ذات العائد الجيد، ودعمت المؤسسات الأهلية هذا التوجه بشكل مباشر بل إنها تدعو له وتقدم الدراسات للمؤسسات المحتاجة، وهذا لا شك يحقق توجهات الدولة في رؤيتها الشابة، كما أن على المدارس والجامعات دور رئيس في إطلاق ثقافة المسؤولية الاجتماعية والعمل التطوعي لأنها تبني أجيالاً للمستقبل سينطلقون بفكر مختلف نحو خدمة المجتمع وإعادة تدوير خبراتهم كي ينفعوا المحتاجين، والقطاع التنموي الجديد الذي أمضى عقوداً طويلة وهو تحت الرعاية قد الكثير من قيمته وقلل الاندفاع في التطوع فيه واليوم وبالعمل المؤسسي المحكم للتطوع سيعيد الانطلاقة من جديد بل إننا سنشاهد التدافع الإيجابي في الانضمام إليه طالما أوجد له إطار عملي وزمني يمكن من الاستفادة من المتطوع وإفادته في الوقت نفسه وبما يحقق له شعور كان يتمناه في خدمة صادقة لفئات المجتمع.