كوثر الأربش
مثل سلال الثمار، علينا أن ننتقي الفاسد منها دوريًا، وإلا انبعثت روائح كريهة حتى وإن كانت ثمرة واحدة اختفت خلف مجموعة ثمار نظرة. الأفكار أيضًا يمكن أن تعطن وتفوح منها رائحة عفنة لا تشمها بأنفك، ولكن قشعريرة نفور تُبعدك لا محالة. لأن الأفكار لها قوة جذب وقوة تنفير؛ خصوصًا لأولئك الحريصين على سلال أدمغتهم من احتواء أفكار معطوبة. متى وكيف تعطب أو تفسد فكرة؟ حينما يحاصرها حراسها من عوامل الزمن والمكان، ومن النقد وإعادة التفكير. هكذا تصبح الأفكار فاسدة، هكذا تصادف في حياتك أشخاصًا يثرثرون عن ذات الفكرة، مهما عُدت والتقيتهم بعد عشر أو عشرين عامًا. تجدهم مثل صخرة جبلية عنيدة، لا تغيرها قوة الريح إلا بقدر طفيف لا يكاد يلاحظ.
«الأعراب» وهم أهل البادية، رغم ما تضفيه عليهم الصحراء من سمات. إن مسالك الأودية، وشساعة المساحة، وعورة الطرق، النجوم الواضحة في عتمة السماء وغموضها، الأشجار وشحّها، وحوش الليل وبغتتهم، هواتف الفضاء، الحفيف والصدى المجهول؛ البيئة الصعبة تلك، المعسكر الطبيعي الذي يخُرّج أفرادًا بصفات فريدة: الكرم والنُصرة، عزة النفس وشرف الأخلاق، الشجاعة والإقدام والغيرة والإيثار، صفاء الذهن وقوة الحافظة، الفراسة ومعرفة الطرق. كل تلك المزايا لسببٍ عنصري أو أيديلوجي يتغافل عنها الكثيرون. ويحضر البدوي لديهم، في لغتهم اليومية واستشهاداتهم وتاريخهم، كرجل جلف، قاسٍ، عنيد ومتخلف حضاريًا. هكذا وحسب. ولو كان هذا التكريس يخص لُزماء البادية لهانت، بل يعتبرون كل من ينتمي لمدينة ما أو ضاحية ما بدوياً وأعرابياً، ينسفون كل مزاياه ويتعاطون معه وفق صورة جامدة لا يريدون تحريكها. ويمكننا أن نتجاوز كل ذاك لو كان الأمر عفويًا أو بدافع جهل. لكن ماذا لو كان الباعث أيديوجياً؟ نعم هكذا وبكل شفافية، هناك من يسعى للتنقيص من بلاد معينة بدافع أيديلوجي محض. أعني تحديدًا، وبكل تجرد، وأسف أيضًا، بعض إخوتنا وجيراننا العرب. وخصوصًا حينما باعوا عروبتهم بثمن بخس، لإيران أو للمالكي ونصر الله (المتفرسنين) ربيبي الشعوبية الفارسية المقيتة. هؤلاء العرب المتفرسنين، ولأن باب القدح في العروبة بمجملها مغلق، فقد «دبلجوا» الشعوبية الفارسية بما يناسب (عروبتهم المتفرسنة)، فاتخذوا مصطلح «الأعراب»، للقدح بأخوتهم العرب وشتمهم وإلصاق كل الصفات الذميمة بهم. الأسباب واضحة، فالمستند شرعي. كعادة الإسلام السياسي بكل مذاهبه، القرآن دائماً هو الحل. عن طريق شطر الآيات ولوي أعناقها والاجتزاء وتحريف المعاني. الأعراب مذكرين في القرآن بطرق متعددة، تارة على سبيل الذم وتارة على سبيل المدح. لكنهم تمسكوا بالجزء الذي يدعم مهمتهم المشبوهة والمغرضة. لن تجد أحد عشاق إيران إلا ويشتم العرب والعروبة، تحت مسمى (البدو والبداوة). ما يهمني هنا هم أصحاب الألباب، العقلاء، الذين يحرصون على سلال عقولهم من الأفكار المعطوبة. الحرص على إعادة التفكير في مفهوم مصطلح «الأعراب». أمر آخر، أو سؤال آخر: هل بقي في الخليج من يمكن تسميتهم بدواً؟ ما نسبتهم؟ سؤال أخير: هؤلاء بكل سماتهم الطبيعية، من صفاء ذهن، وقوة ذاكرة، وشرف أخلاق، وغيرها من الصفات التي تمثل أرضية صلبة لشخصية يمكأن تكون فردية وعظيمة. وماذا لو تلقوا تعليماً مغايرًا، بعثوا للخارج لجامعات عالمية، انفتحوا على حضارات وثقافات أخرى. هل يقارنون بمن يشتمهم ببدواتهم، ممن لم يتعد حي بيته ولم يستمع إلى أكثر من خطبة إمام مسجده وحكايا جداته؟
كل شيء يتغير، والثقافة والحضارة كالمال: دولٌ. وكما قال أبو البقاء الرندي: هي الأيامُ كما شاهدتها دُولٌ، مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ. وهذه الدار لا تُبقي على أحد، ولا يدوم على حالٍ لها شأن.