فضل بن سعد البوعينين
باتت وزارات الدولة أكثر انفتاحًا على الإعلام؛ وأكثر حرصًا على التفكير بصوت مرتفع من أجل إيجاد الحلول الناجعة للتحديات المختلفة. نشر ثقافة التواصل المباشر يسهم في إيصال المعلومة النقية من مصادرها؛ وتصحيح المعلومات الخاطئة؛ وخلق شراكة حقيقية مع المجتمع بمكوناته المختلفة.
يحسب لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية مبادرتها في التواصل البناء مع الإعلام؛ كتاب الرأي؛ المغردين والمختصين وحرصها على تقديم معلومات شاملة عن سوق العمل والمخاطر المتوقعة والمعوقات، والمشكلات التي تستوجب التدخل السريع لمعالجتها ووقف تداعياتها الخطرة.
ويحسب للوزير مفرج الحقباني شفافيته المطلقة في الطرح؛ وتحمله مسؤولية مخرجات البرامج؛ وما يعتريها من أخطاء أو قصور في الرؤية الشمولية أو نتائجها المحققة؛ ومنها الاعتراف بعدم تحقيق برنامج «نطاقات» أهدافه الشمولية؛ وإن حقق هدف رفع نسبة التوظيف؛ الذي أصر على تسميته بـ «التوظيف غير المنتج» لا «التوظيف الوهمي».
أرقام ونسب مخيفة قدمها الوزير الحقباني تؤكد على أن مشكلات سوق العمل أكبر وأخطر من أن تحصر في «البطالة» وآليات معالجتها؛ بالرغم من أهميتها القصوى واستحواذها على تركيز الحكومة، الشعب، والإعلام. تشير بيانات «أطلس الوظائف» إلى ارتفاع نسبة التوظيف في مناطق محددة؛ أو ربما مدن قليلة؛ على حساب مدن المملكة ومناطقها المترامية الأطراف؛ ما يضعف من دلالات مؤشر البطالة. التوزيع غير العادل للوظائف المخلوقة لا علاقة له بتنظيم وزارة العمل وتشريعاتها؛ بل يرتبط بشكل مباشر بالتخطيط الاستراتيجي الذي يفترض أن يتعامل مع جميع مناطق المملكة وفق رؤية تنموية شمولية ينتج عنها توليد وظائف جيدة يتناسب عددها مع حجم السكان والطلب على الوظائف النوعية؛ والتوازن بين الوظائف النسوية والذكورية بما يساعد على معالجة بطالة النساء المتضخمة؛ وهو أمر لم نتوقف عن طرحه خلال السنوات العشر الماضية.
«الانكشاف المهني» أحد أهم المخاطر التي تهدد الاقتصاد والوطن في آن. حيث تشير مؤشرات الوزارة وبياناتها المستسقاة من «هيئة الإحصاءات العامة» إلى سيطرة العمالة الأجنبية على كافة المهن التي يعتمد عليها الاقتصاد؛ ما يعني ارتفاع حجم المخاطر وعدم توفر «الأمن المهني» الذي يفترض أن يكون نتاجًا مباشرًا لتوظيف السعوديين من الجنسين في القطاعات التي لا يمكن للاقتصاد النهوض والعمل دونها. يهيمن غير السعوديين على وظائف أكثر القطاعات الحيوية؛ التي لا يمكن العيش؛ أو إدارة الاقتصاد دونها؛ ومنها الصحة؛ التصنيع؛ الزراعة؛ تجارة الجملة؛ النقل؛ التشييد البناء؛ والسياحة. إضافة إلى ذلك؛ يشكل ارتباط بعض القطاعات الاقتصادية بجنسيات محددة خطرًا أكبر؛ وانكشافًا يستوجب التدخل السريع. الانسحاب المفاجئ لتلك القوى العاملة سيتسبب دون شك بآثار مدمرة للاقتصاد والمجتمع على حد سواء.
تحقيق «الأمان المهني» الذي تعرفه الوزارة على أنه: «الرصيد المهني الوطني الكافي لضمان استمرار النشاط الاقتصادي بالقطاعات دون اعتبار للظروف والمؤثرات الخارجية» يسهم في معالجة البطالة بشكل فاعل؛ وتقليص حجم العمالة الوافدة؛ وتحقيق التوازن السكاني من خلال خفض نسبة العمالة الوافدة ومرافقيها من السكان لتصل إلى النسبة المحددة من «مجلس القوى العاملة» وهي 20 في المائة بدلاً من نسبتها الحالية المتضخمة والمقدرة بـ 68 في المائة؛ إضافة إلى تحقيق توازن بين جنسيات العمالة الوافدة.
أجزم أن سوق العمل ما زالت تعاني من مشكلات هيكلية عميقة؛ وهي في أمس الحاجة إلى تدخل الحكومة لمعالجتها على وجه السرعة. مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بات معنيًا بملف البطالة وتوليد الوظائف ومعالجة مشكلات سوق العمل. قد لا تكون الوزارة قادرة على مواجهة التحديات منفردة؛ فالعمل الحكومي يستدعي توفير أعلى درجات التنسيق بين الوزارات والمشاركة الفاعلة في معالجة الملفات الحرجة.
قد تواجه الحكومة تحديًا آخر مرتبطًا بعمليات تسريح السعوديين كنتيجة مباشرة لتقلص الإنفاق الحكومي؛ وخروج شركات من السوق؛ إضافة إلى ما سينتج من مشكلات طارئة حين تطبيق البرامج المرتبطة بإعادة هيكلة سوق العمل. سيطر ملف «البطالة» خلال عقد من الزمان على اهتمام الحكومة؛ التي تعاملت معه بنظام المسكنات لا الجراحة الحاسمة؛ ودون النظر إلى الملفات الأخرى التي تؤثر وتتأثر به؛ ما تسبب في تضخمه؛ وتنوع مكوناته وانعكاساته الخطرة.
بيانات وزارة العمل (الحمراء) تدق نواقيس الخطر؛ وتؤكد على أننا تأخرنا كثيرًا في معالجة المشكلة؛ وربما أخطأنا في التركيز على «السعودة» الارتجالية دون التخطيط الاستراتيجي الذي يوفر الكفاءات المطلوبة؛ ويتعامل مع برامج الإحلال بشمولية قادرة على تحقيق «الأمان المهني»؛ ويجعل من القطاع الخاص شريكًا أصيلاً في إيجاد الحلول الناجعة لمشكلات الاقتصاد. دروس الماضي يفترض أن تكون لقاحًا لتحديات المستقبل. وتكرار الأخطاء يعني الفشل لا محالة. والحكومة الرشيدة هي التي تعزز فرص النجاح؛ وفق العمل الاستراتيجي التكاملي؛ والرؤية المستقبلية الفاحصة؛ والتقييم الذي يمكن من خلاله اكتشاف الأخطاء، ومعالجتها، ووقف انتشارها في مواقع أخرى؛ وعزل الأطراف المتسببة في حدوثها.