أدارت الرؤوس تعجباً منذ أن سمعوا بها، أو استمعوا لها، وخلبت الألباب عشقاً وظل الجميع يخطب ودها، منهم من كان يصيخ لها السمع وبعضهم من لم يستطع صبراً فادخر الأموال ليتحصل عليها، قبلها كانت الدول تعتبرها من أهم أولوياتها بل كانت إحدى الاستراتيجيات التي يجب أن يخطط لها بدقة حتى تتحصل عليها.
قبل أيام احتفل بيومها كل العالم، ورغم تجاوز عمرها المائة عام انقسم الناس حولها، بين فئة لا تزال ترى فيها أصالة وثراءً وأنها أشبعت حاجياتهم المعرفية من حديث رصين أو حفلات موسيقية ينتظرونها كل أسبوع أو برامج أو خطابات سياسية يعرفون عبرها ما يدور في بلدانهم أو في العالم البعيد، أو أخبار الوفيات وغيرها من الأخبار المتنوعة، وظلوا على الوفاء لها والاعتراف بفضلها، بينما فئة أخرى تخلت عنها عندما وجدت ضالتها في التكنولوجيا الحديثة المبهرة وتتشبثوا بها وصولاً لمحاكاة الذكاء الاصطناعي.
هي الإذاعة، الصوت الذي أتى عبر الأثير معبأً بالمعرفة والتنوير، الإذاعة التي نجحت في خدمة المجتمعات الإنسانية والوصول إليهم في أماكنهم البعيدة والنائية، تلك الوسيلة التي «فكت شفرة العالم، وأعطت الكلام لمن لا يستطيع التعبير» وهي الوسيلة الإعلامية الأوسع انتشاراً.
والإذاعة هي إحدى وسائل الاتصال التي أسهمت في توعية الشعوب ولا سيما التي لازالت معدلات الأمية فيها مرتفعة نافستها المنصات الرقمية بقوة، وتجاوزتها وسائل التواصل الاجتماعي، ورمقها الذكاء الاصطناعي وعالم الميتافيرس بتهكم، ولكن لا زالت قوية رغم تناقص مستمعيها وقلة مواردها، وبذكاء احتضنت الإذاعة الثورة الرقمية معززة عبرها قدرتها وفضاءها الإسفيري، ومهما ابتعدنا عنها ردحاً من الزمان إلا أننا سنعود لها بحب عندما نشعر بتراكم تلك الفجوة التي يصنعها تباين الأجيال واختلاف الوسائل الحديثة.
ولا يختلف اثنان في أنها نجحت في تشكيل القلوب والعقول وخاطبت الأمم وشحذت الهمم، ولكن كان لعصر التكنولوجيا كلمته وسطوته وسلطته على أمزجة الناس حيث لعبت التكنولوجيا الرقمية الحديثة دوراً كبيراً في تغيير سلوكياتهم بدءاً من فعل القراءة التقليدية إلى طرق الترفيه والمشاهدة والاستماع التي صارت رقمية ولها منصات متعددة ومتنوعة وربما جاذبة.
وتحتفل الأمم المتحدة باليوم العالمي للإذاعة في الثالث عشر من فبراير من كل عام، حيث تدخل الإذاعة الآن وبثقة لقرنها الثاني غير عابئة بتطور الوسائل المستحدثة يوماً بعد يوم وولادة العديد من المنصات الجديدة التي سرعان ما يخفت بريقها الواحدة تلو الأخرى، وتظل هي متواجدة لاستنادها على تاريخ تقني ضخم وأرشيف يحكي تطور الشعوب.
والمتتبع للتاريخ الإذاعي في العالم العربي يجد أن للمملكة العربية السعودية تاريخاً إذاعياً عريقاً تجاوز السبعين عاماً حيث كانت البداية عند استعمال المذياع لافتة عندما بدأ الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله في الاستماع بنفسه إلى بعض الإذاعات التي تهمه إذا كان الوقت لا يتعارض مع أعماله، وفي عرفة من العام 1949م في ذلك اليوم الذي تتهادى فيه قلوب المسلمين للمشاعر المقدسة حمل الأثير صوت الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله مرحباً ومهنئاً الحجيج بمناسك الحج وبقدومهم للأراضي المقدسة، وبه بدأ الإرسال الفعلي لإذاعة جدة، ليلبي أشواق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
لتنطلق بعدها الإذاعة ليُكتب تاريخها منذ ظهور المملكة العربية السعودية كدولة موحدة تحت لواء الملك المؤسس عام 1932. وتم توسيع اختصاصاتها بعد ذلك إذ صارت تُعنى بمتابعة كل ما ينشر عن المملكة في الخارج والاهتمام بالوفود الإعلامية، إلى أن استحدثت، بعد وفاة الملك عبد العزيز بعام، مديرية الإذاعة والصحافة والنشر.
وتعتبر السعودية دولة مواكبة لكل حركة التطور البشري حيث استطاعت عبر الإذاعة في نقل المعرفة للمواطن السعودي وجعلته مواكباً للأحداث، المحلية والعالمية، وتوثيق النهضة التي عاشتها المملكة تحت قيادة الملوك - عليهم رحمة الله - حتى قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله -.
والمملكة نجحت إذاعياً في الوصول إلى المسلمين في جميع أنحاء العالم بخطاب إسلامي معتدل مستند على القرآن الكريم والسنة النبوية، والشاهد هنا على تميز الإذاعة السعودية قدرتها على ربط المسلمين بالأجواء الإيمانية وبالمشاعر المقدسة، مستندة على خبرات تبلغ سبعين عاماً من العطاء في مجال الأثير الآسر للقلوب، واليوم ورغم تطور العالم تكنولوجيا، إلا أن هنالك من لا يزال يجلس محتضناً لجهاز الراديو في الأقاصي البعيدة ليستمع ويستمتع بما يتم نقله عبر الأثير في مواسم الحج والعمرة.
ولعل الذاكرة الإنسانية تحتفظ بالعديد من المشاهد من قبل المستمعين أو المذيعين تحمل العديد من المواقف المميزة ومن طرائفها أن المذيع أيوب صديق والذي كان يعمل في «ال بي بي سي» في بدايات العام 1966م وفي أثناء تقديمه لأحد البرامج وبدلاً من أن ينطق تلك الكلمة الشهيرة «هنا لندن» أخذه الحنين إلى بلده السودان فقال «هنا أم درمان» ليستدرك بعدها سريعاً معتذراً للمستمعين شارحاً لهم أن حنينه «لأم درمان» هو ما أنساه «هنا لندن» وارتجل بيت أمير الشعراء أحمد شوقي قائلاً: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي. وأكمل بعدها «هنا لندن».
وأختم بأبيات للشاعر السوداني/ محمد يوسف موسى والتي كتبها في المذيعة والإعلامية السودانية الراحلة ليلى المغربي حين سمع صوتها لأول مرة عبر الأثير (الراديو).
يا صوتها لما سرى عبر الأثير معطراً
مثل الحرير نعومةً ونداوةً وتكسراً
مثل الصباح طلاقةً و رشاقةً وتخضراً
وهما حنيناً حالماً وصبابةً وتأسراً
وتدفقت كلماتها دفئاً نديا اخضراً