لا تقتصر الأمومة على البشر، هي منحة ربانية للطير والحيوان أيضًا.. فذات يوم سقط فرخ عصفور في باحة الدار؛ فتعالت زقزقة أبويه، يحومان من حوله، يرفرفان بعصبية ظاهرة، بدا عليهما التأثر والألم لما حل بفرخهما.. فتفحصناه، فوجدنا إحدى ساقيه مكسورة، كان أبواه يحاولان تعليمه الطيران؛ فسقط أثناء إحدى المحاولات، فكسرت رجله، فحاولنا مساعدته وتثبيت الكسر، ولم يكن من السهل معالجتها؛ لأنها ليست مثل كسور البشر.. حاولنا قدر المستطاع العناية به، وتركنا لأبويه فرصة زيارته باستمرار، يجلبان له الطعام، ويشرفان عليه بكل عناية وشفقة، كان دورنا أن نجبر كسر هذين الوالدين بفرخهما؛ فبدأ يتعافى، وبدأت رجله الغضة تستقيم، وبدأ يقفز ويتكئ عليها، وتماثل للشفاء، وطار -في غفلة منا- واختفى عن أنظارنا.
قبل فترة، لفت نظري جرو صغير، يتلوى من الألم، قابع في قارعة الطريق، يصدر عواءً مكتومًا، مخزونًا في صدره، دهسته سيارة، لكنها لم تقض عليه، وأمه الكلبة تدور حوله باضطراب ملحوظ، تبادله العواء الحزين، الذي لا يخفى ألمه على السامع.. نزلت من السيارة، وأبعدت الجرو إلى حافة الطريق، حتى لا تأتي سيارة أخرى؛ فتقضي عليه، وأمه تتبعني بنظرات الخوف والاستغراب، وأظنها عرفت أنني لا أريد له الأذى.. لم يغب عن مخيلتي منظر هذه الأم الكلبة المكلومة، التي أصيبت في صميم أمومتها، فعدت بعد ساعة، لاستكشف الأمر؛ فوجدتها ترقد بجانب جروها، وضعت حنكها على التراب، تراقبه، ولا تغادره عيناها، وذيلها يتهادى يمنةً ويسرى، كأنها تخاطبه، وترسل إليه تطمينات.. عدت مرات، استطلع الأمر عن قرب؛ يدفعني في ذلك فضولي وحسي الطبي، لمعرفة درجة وقوة إصابة هذا المخلوق، أدركت أنه لا يملك وسائط للاستشفاء والعلاج مثلنا نحن البشر، لأن ما أصابه وحل به، لا يجد له -في عالمه وطبيعته- وسيلة تساعده على تجاوز محنته، فأردت أن أعرف كيف يلجأ هؤلاء المحرومون لتجاوز مصائبهم؟!.. فعرفت بأنها الرحمة الإلهية والأمومة الباهرة، التي ساعدته على الشفاء؛ فقد رأيت الجرو هو وأمه يقفزان وينتفضان من جديد، وإذا بهما يتجاوزان مصيبتهما؛ فيخطوان خطوات متمايلة متهادية، ثم يقفزان فوق الأحجار، ويختفيان عن الأنظار.
مرة أخرى؛ كانت فرحتنا غامرة، حينما علمنا بأن زوجًا من الطيور اختارا شجرة في حديقة البيت؛ ليضعا عشًا لهما، وأتت فرصة ثمينة لنا لمراقبتهما، عن قرب والتجسس عليهما، بين الفينة والأخرى، شعرنا بالسعادة لاختيار -هذين الزوجين- بيتنا، وكانا ضيفين مرحبًا بهما، رغم عدم طلبهم الاستئذان منا؛ فأشعرانا بالغبطة والابتهاج، واستبشرنا خيرًا بهما، كانت مراقبتهما تمنحنا الدفء والحنان؛ لأننا نرى الرحمة الإلهية تجاورنا، كانت الأنثى تجلس في العش طوال اليوم، لا تغادره إلا نادرًا، تحتضن ثلاث بيضات، والذكر يتردد عليها باستمرار، يجلب لها الطعام، ثم يقف بجوارها يتأملها، وينظر إليها بأناة وإشفاق ورأفة باهرة، كأنه يدعوها للصبر واحتمال هذا الجلوس الطويل، ويأملها بأن ثمرة هذا الجهد سيكون أمومة، ومنحة ربانية تستحق كل هذا الثمن.
وكانت النتيجة، ثلاث فراخ، لا يغطي الزغب سوى أجزاء بسيطة من أجسامهم الغضة، أفواههم تنتظر ما يجلبه لهم والدهما؛ فيبدؤون بالزقزقة وفتح مناقيرهم الصفراء اللون، والوالدان يضعان فيها مما حصلا عليه من خشاش الأرض.. كنا نراقب تطورهم، ونموهم ونتلمس زغبهم، من يوم لآخر، الذي بدأ يتساقط، وأخذ الريش ينبت مكانه، ليغطي المساحات المكشوفة من أجسامهم، وأخذت الأجنحة تأخذ شكلها الواسع العريض؛ حتى جاء اليوم الموعود، ليغادرونا إلى غير رجعة.. وكان يومًا حزينًا لنا، ومثيرًا لتلك الفراخ، التي قفزت من العش، تحت ناظري والديهما، اللذين يراقباهم، عن قرب.. كان درسًا عسيرًا في الطيران، نجح فيه اثنان وفشل الثالث الذي اختفى ولم نعرف مصيره!.. قد تبدو هذه الحالات بسيطة وغير ممتعة، لكنها تشعرنا بالإعجاز الرباني في الأمومة.