ما مراحل تطور مفهوم المواطنة في التاريخ القديم والمعاصر؟ وما أهم النظريات التي يستند إليها هذا المفهوم؟ وهل تمثل المواطنة حالة شعور فحسب بين جميع الأفراد الذين يقيمون في إقليم واحد؟ وهل يعترف الإسلام بالمواطنة؟
بدايةً فالمواطنة لغة من مادة وطن والوطن هو المنزل تقيم به وهو موطن الإنسان ومحله، وكل مقام قام به الإنسان لأمر، فهو موطن له. ومنه واطن القوم: عاش معهم في وطن واحد، فالمواطنة تنشأ بين الناس في إقليم جغرافي في حالة وجود وطن. فإذا وجد الوطن نشأت فيه علاقة يقال لها المواطنة، إذاً المواطنة لا تمثل حالة شعور فحسب، إنما تمثل رابطة وتفاهماً وتعاقداً من أجل التعايش السلمي.
حقيقةً هناك نظريتان في نشأة مفهوم المواطنة وتطورها التاريخي، فالنظرية الأولى: تؤكد على أن المواطنة تعود إلى بداية تكوّن الجماعات الإنسانية، والنظرية الثانية: تؤكد على أن المواطنة تعود بجذورها التاريخية إلى الحضارات الغربية القديمة.
وبناءً على النظرية الأولى: فإن مفهوم المواطنة يمتد في أعماق التاريخ لارتباطه بالمجتمع الإنساني عندما شكل نواته الإصلاحية عبر الانتقال من التوحش إلى الاستقرار على ضفاف الأنهار ومواطن الزراعة والصيد، فحينها كان المواطن هو من انتمى إلى تلك المجتمعات البدائية، فكانت له حقوق كما عليه واجبات نحو المجتمع الذي يعيش فيه، وقد ارتبطت المواطنة باستقرار الإنسان في المدينة- بعيداً عن توصيف المدينة بمواصفاتها الحاضرة- فيكفي عمقها الاجتماعي الذي يفيد تكوّن مجتمع صغير له هوية وقيادة وتقاليد ينتظم إليها في تدبير أسلوب العيش اليومي، فتاريخ المدينة هو تاريخ المواطنة في عمقها السياسي والفلسفي، وقد ظل مفهوم المواطنة مفهوماً بدائياً حتى عصر التنوير، فقام رموز عصر التنوير (هوبز- لوك- روسو) بطرح مفهوم آخر يقوم على العقد الاجتماعي ما بين أفراد المجتمع والدولة والحكم، وعلى آلية ديمقراطية تحكم العلاقة بين الأفراد أنفسهم بالإسناد إلى القانون الذي يتساوى عنده الجميع، وبعدها تغير مفهوم المواطنة من أداة تمييزية ضد الآخرين تربط الناس عضوياً ضمن مفهوم القوة والسلطة إلى الإشارة إلى أن المواطن أصبح ذاتاً مستقلة كينونة وحقوقاً.
هذا وتنوعت إفرازات مفهوم المواطنة في التاريخ المعاصر بحسب التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية والتي لا يمكن قراءتها بمعزل عن الظروف المحيطة بها أو بعيداً عن الزمان والمكان بكل أبعادهما الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأيديولوجية والتربوية، ومن ثم لا يمكن التأصيل السليم لمفهوم المواطنة باعتباره نتاجاً لفكر واحد مبسط، وإنما باعتبار أنه نشأ وترعرع في ظل محاضن فكرية متعددة تنوعت نظرياتها وعقائدها، بل وظروف تشكلها على المستوى المحلي والقومي والدولي.
وبناءً على النظرية الثانية: فإن مفهوم المواطنة على الرغم من حداثته إلا أن جذوره تعود إلى الحضارات الغربية القديمة، فقد بلورت الحضارة الرومانية القديمة فكرة المواطنة كوظيفة يتحتم على المواطنين القيام بأعبائها ومسؤولياتها، وعَرفت مصر الفرعونية حقوق الإنسان فيما يتعلق بمبدأ المساواة بين جميع المواطنين، بمن فيهم الأجانب الذين يقيمون على أرضها، وكانت الوصية التي تُوجه للوزراء عندما يتقلدون مناصبهم تقول: «عامل بالمساواة الذي تعرفه والرجل الذي لا تعرفه الرجل القريب منك والرجل البعيد عنك. واعلم أنه عندما يأتي إليك شاكٍ من الجنوب أو من الشمال، أو من أي بقعة في البلاد، فعليك أن تتأكد أن كل شيء يجري وفق القانون»..
وقد سجلت الحقبة الاستعمارية من قِبَل المحتلين للوطن العربي عصر انحدار لمفهوم المواطنة، فقد حل المحتل محل المواطن، فخلال عقود من الزمن كانت الجزائر مثلاً تعد مدينة فرنسية دون أن يكون للجزائري صفة المواطن فيها، وتمت الفرنسة بشكل طائفي وعنصري، فجرى إعطاء الجنسية لكل اليهود الجزائريين في عام 1889م في حين كان يُطلب من الجزائري أن يعلن انسلاخه عن الإسلام ليحصل على الجنسية.
أما المواطنة من المنظور الإسلامي، فهي اسم جامع لأبناء المجتمع سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين. فالجميع أهل وطن، تجمعهم أخوة وطنية على اعتبار أنهم جميعاً أهل دار الإسلام، وصاحب الدار كما هو معلوم ليس غريباً ولا أجنبياً. قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}. فقد عدت الآية القرآنية الشريفة النبي نوحاً أخاً لقومه المشركين الذين يواطنهم بنفس المكان..
إذاً الإسلام لا يعترف فقط بالأخوة الدينية فحسب، إنما يضع اعتباراً كذلك لأخوات أخرى كالإخوة الوطنية والإخوة الإنسانية وغيرها، والوطن في المفهوم الإسلامي هو السقف الذي يجمع المسلمين وغير المسلمين، في لُحمة تفرض عليهم جملة من الحقوق والواجبات، وفي كنف شريعة تؤمن بالتنوع الإيديولوجي والفكري وتقوم على أسس أخلاقية، وتحترم كل الأديان.
وأخيراً : فإن التفكير بالإنسان لا يرتبط بإقليم معين ولا بأرض خاصة ولا شعب مخصوص؛ لذا كانت الوحدة الإنسانية من أهم الأسس والمبادئ التي يقوم عليها مفهوم المواطنة عبر مراحل تطوره المختلفة.