يقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران آية (200).
وقال جل شأنه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} سورة الزمر آية (10).
وقال الطبراني والبيهقي:
الصَّبر نصف الإيمان. واليقين الإيمان كله، حيث يعتبر الصَّبر من الصِّفات الحسنة والأخلاق الإسلاميَّة الفاضلة ومن المميزات الَّتي تضفي على شخصيَّة المرء هالة من التَّقدير والاعتبار، وتثير الإعجاب في النَّفس البشرية، وتنتزع العطف والرَّحمة من القلوب.
والصَّبر في مفهومه الواسع يتصل بعدة جوانب من شخصيَّه المرء، ويتعدى الفرد إلى الجماعة ثم إلى المجتمعات والأمم والشعوب فالصبر له دلالات مختلفة وكذلك انعكاسات عدَّة، فهو ينطبق على أمور مختلفة من السلوك البشريِّ، وله علاقات باتجاهات متنوِّعة تتصل بأسس الحياة العامَّة والخاصَّة وبهذا المدلول فإن للصبر ارتبطاً بالنواحي الاجتماعيَّة والسَّياسيَّة والنفسيَّة.
فقد حاولت بقدر الإمكان استنباط بعض أوجه هذا الارتباط الَّذي يتحلى عليه الصبر وخاصَّة لكل التحولات الإنسانيَّة اجتماعياًّ ونفسياً وأخلاقياً وسياسياً، والصبر في بعض حالاته يطلق عليه من قبل الدعاة بأنه سجن للنفس البشريَّة على الإطلاق وهدفه ضبطها، والتغلب عليها وردعها عن مواقع السوء ومستنقعات الشهوات وكافة المساوئ التي تدفع الإنسان إلى الانحراف والإلحاد والخروج عن طريق الصواب فهذه الأسس تشكل مركبات نقص تمس كرامة الفرد، وتشوه سمعته وتحط من قيمته بين أوساط مجتمعه بصفة عامَّة، وهذه الأمور السيئة بشكل عام لها أثرها القوي في إحباط المعنوية عند الفرد مع إلحاق الأضرار بأفراد الأمة والأسر، فقد أهتم علماء النفس بهذه الظواهر وأخذوا يبحثون عن أمور عدَّة للعلاج فوجدوا أن العلاج لهذه الأمور سابقة الذكر أنه الأفضل والأحسن والأنجح هو الصبر ولغيره من الأمراض والعلل النفسيَّة والاجتماعيَّة فالصبر يعتبر وسيلة من الوسائل الهامة التي تمكن الإنسان من مجابهة سوء العاقبة والمصير ومن شظف العيش وأنواع التعاسة والشقاء والحرمان فالصبر يعتبره البعض من البشر أنه (بذرة) يجب أن تغرس في نفوس الأجيال الفتية مع تشجيعهم حتى يسود المعتقد بأن الصبر أمر مهم وضروري وذلك لتعزيز مكانة المرء وبناء شخصيته على مبادئ صحيحه وسليمة.
فالمتعلم إذا لم يتحلى بالصبر في أداء الواجبات المدرسية بدون إهمال أو تقاعس أو تردد أو انقطاع، فأنه يفقد مسيرة توازنه، وكما أن الصبر مقترن بالشجاعة لا يمكن للفرد أن يتحلى بالتصدي والدفاع عن المقوِّمات الأساسية والمثل العليا إلا إذا اتصف بالصبر ويقول الباري عزَّ وجلَّ في محكم كتابه العظّيم: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} سورة آل عمران آية (186).
ومن أهمية القول: إن الصبر من خصائص الإيمان، ومكانته من الإيمان كمكانة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس ذهب الجسد والمثل القائل: {من صبر وتأنى نال ما تمنى}.
فقد جاء عن «العلاء بن المسيَّب عن أبيه عن سعد سئل نبي الرحمة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الناس على حسب دينهم، فمن ثخن دينه أشد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي فيه الناس ما عليه خطيئة) رواه ابن حبان في صحيحه.
فإن تكفير السيئات مطلب من أعز أماني كل إنسان، لأنه يغسله من أدرانه، ويغسله من أحزانه، ويخلصه من مذلته وحرمانه ... وبذلك يكون صالحاً للفوز بكل مرغوب من خالقه الرحيم، وما على المؤمن ليفوز بهذه المنزلة الرفيعة سوى أن يصبر ويصبر ... ويجعل المزيد من الصبر عدته وعتاده في مواجهه أرزاء الحياة المعتادة.
فالواجب على المرء أن يصبر على ما أصابه فإن الذي أصابه إنما هو عنوان حبة الله له، وإيثاره على غير وذلك في تطهير قلبه ومضاعفة جزائه ورفع منزلته.
فإن الصبر مقياس دقيق لعمق اليقين وصلابة الإيمان، وذلك بمقدار ما يكون الإيمان قوياً وقد روى الإمام أحمد بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وأن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط).
ولكن لنا قدوة في نبي الرحمة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، على الرغم من علو مقامه، وسمو منزلته عند ربه، وعلى كونه صاحب الحوض المورود والمقام المحمود، وصاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة - لم يسلم من أهوال الدنيا ومكائدها وشدائدها، فقد أراد الله له أن يتعرض لإيذاء الكافرين وتكذيب المعاندين وتعذيب الوثنيين ... حتى أخرجوه من بلده، وحالوا بينه وبين أحب البلاد إليه، وآذوه في نفسه فقالوا: إنه ساحر، واتهموه في عقله فقالوا: إنه مجنون! وشككوا فيه رسالته فقالوا: إنه كذاب! كل هذا وهو صامد صابر، يجاهد برغم الأذى، ويدعو ربه برغم العنت والسخرية والتحدي! إلا أنه صابر محتسب.
وقال تعالى:
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} سورة الشعراء آية (3).
وقال تعالى:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} سورة الكهف آية (6). فإن الصبر وقاية شافية لكل الأمراض. كما أنه يمثل الكثير والكثير من المواقف وهو مقترن بالشجاعة ومناصرة الحق لأجل إحقاق الحق دون أن يخاف في هذا السبيل لومة لائم، فهو السلاح القوي الذي يمكن أن يحطم هياكل الباطل والعبث، ويزج بخلايا الانحلال والفساد في غياهب الظلام ومراتع النسيان والتجاوز، فإن صفه الصبر من صفات الإيمان الحقيقي، وقد كرَّم المولى جلّت قدرته الصابرين في آيات عدة ومن خلال هذه التكريم خص الله سبحانه وتعالى عباده الصابرين، الذين يجتهدون بصير وشجاعة أن ينالوا الجزاء من ربهم.
والله الموفِّق والمعين.