اخترت عنواناً لمقالي شطراً من بيت الشعر:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إنَّ التشبهَ بالكرامِ فلاحُ
قبل الحديث عن بيت المصانع يجب أولًا أن أتحدث عن أحد أركانه الأساسية التي صنعت لنا أبطالًا محنكين، شهد لهم العالم بأكمله كما أن التاريخ تغنى بسيرهم.
الأميرة حصة بنت أحمد بن محمد السديري، ولدت في الغاط قبل فتح الرياض بسنة واحدة عام 1318 هجرية الموافق عام 1900م. وهي إحدى زوجات الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية وأول ملك للبلاد. عاشت الأميرة حصة طفولتها في كنف والدها، ووالدتها شريفة السويد، والمشهور عنهما الصلاح والحكمة، فحظيت منهما برعاية كريمة، وتنشئة صالحة، كان لها أبلغ الأثر في بناء شخصيتها منذ الصغر، فالأميرة حصة وما ملكته من صفات جليلة ومباركة ونشأة طيبة جعلتها مضربًا للمثل ولافتةً للانتباه، حيث لفت انتباه الملك عبد العزيز إليها، فتزوجها عام 1331هـ (1913م) ولها من العمر ثلاثة عشر عاماً. وبعد زواجها من الملك عبد العزيز، انتقلت الأميرة حصة بنت أحمد السديري من الغاط إلى الرياض، وسكنت حيث يسكن الملك في قصر الديرة، ثم في قصر المربع، ثم بعد وفاة الملك عبد العزيز في أحد قصور المنصورية، إلى أن استقر بها المقام في قصر المصانع، المكان الذي كانت تحبه حتى وفاتها. فحظيت بمكانة رفيعة ومنزلة عالية عند الملك عبد العزيز، وما ذلك إلا لطيب سيرتها وسريرتها، فقد شهد لها زوجها الملك عبدالعزيز، حيث قال: «إنه لم يسمع منها إطلاقًا ولو كلمة واحدة تسيء لأحد، أو تضر بأي شخص، فكانت الأثيرة عنده، وأحبّ زوجاته إلى نفسه، لدرجة أنه كان كثيرًا ما يدعو الله أن ترافقه في الجنة».
هذه السيرة العطرة التي لا تنقطع أبدًا، بل تزداد طيبًا كلما زاد الزمان؛ لأنها بُنيت على أركان ثابتة، قوامها الصلاح والحكمة والإخلاص والمثابرة والطيبة وحب الخير ومساعدة المحتاجين وتفقد الرعية وأحوال الناس والجيران. بيت المصانع الذي عاشت به الأميرة حصة بنت أحمد بن محمد السديري هي وأولادها، وهم: الملك فهد، والأمراء: سلطان، وعبدالرحمن، وتركي، ونايف - رحمهم الله -، وأحمد، والملك سلمان - حفظه الله - إضافة إلى بناتها الأميرات، وهن: فلوة وشُعيّع، وموضي، ولولوة، ولطيفة، وجواهر، والجوهرة.
قويت أركان هذا البيت، وعلا شأنه بمن سكنه، ولِمَ لا يعلو ومن عاش بين جداره أمٌّ مدرسةٌ في الأخلاق والتربية والتعليم تعلم منها الجميع بلا استثناء؟!
حكايتها تروى، وقصصها تُدَرس، فلم تنقطع هذه السيرة أبدًا عن الأنظار وعن الألسنة؛ لأن ثمراتها مباركة خرجت لنا رموزًا طاب ذكرها، وها هو التاريخ الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- يعيد لنا هذا البيت بيت المصانع مجددًا، حيث تم استعادته وضمه لمؤسسة الأميرة حصة بنت أحمد السديري الخيرية، ولم تأتِ هذه الخطوة الموفقة من ملكنا - حفظه الله - إلا لما لهذا البيت من مكانة رفيعة في قلبه، حيث كان له دور كبير في بناء شخصيته هو وإخوانه تحت توجيه وقيادة من طاب ذكرها حيَّة وميتة -رحمك الله وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة- ليكون في هذا البيت أول معرض يقام في تاريخ الجزيرة العربية عن امرأة عظيمة؛ ليرى هؤلاء الأجيال هذا الصرح الشامخ والنشأة الطيبة التي نشأ عليها حكام هذه البلاد المباركة، ولما للبيت والأسرة من دور في البناء والحياة.
وفي الختام هكذا عاشت الأميرة حصة بنت أحمد السديري - يرحمها الله- تاركة لنا إرثًا عظيمًا آفاقه واسعة، تجعلنا كل يوم نكتشفُ أسراره، ونستقي من معينه الصافي حكمًا وأمثالًا يستفيد منها الخلف، فهم ممن ينطبق عليها قول الشاعر:
لِلهِ دَرُّ أُنَاسٍ أينَما ذُكِرُوا
تَطِيبُ سِيرَتُهُم حتَّى وإن غَابُوا
وَلَرُبَّ مَكرُمَةٍ جَمَعَت شَمَائِلَهُم
صَارت لنَا غَيثاً يَسرِي وَيَنسَابُ
إن حَدَّثُوا أحداً فالصِّدقُ مَنطقُهُم
أو عامَلوهُ فَلا يَشقَى ويَرتابُ
أو عاهَدوا عَهداً كانَ الوفاءُ بهِ
حَقٌ وهُم دَوماً لِلحَقِّ أَربَابُ
وَوُعُودُهُم شَرَفٌ وكَأنَّ كَلِمَتَهُم
عَقدٌ ومِيثاقٌ صاغتهُ كُتَّابُ
لا يَعرِفونَ الشَرَّ مِقدَارَ أُنمُلَةً
هُم دائماً أبداً لِلخَيرِ أَسبابُ
في قَلبِ مَن يَلقَوهُ تُلقَى مَحَبَّتُهُم
وهُم لِكُلِّ الخَلقِ صَحبٌ وَأَحبَابُ
أولئِكَ الأخيارُ قَد طابَ مَنزِلُهُم
مِيراثُهُم بِرٌّ خُلُقٌ وآدابُ