لن أخوض في هذه الأسطر البسيطة في الحرب الدائرة بين مؤيدي الصحافة الإلكترونية الذين يرون أنها المستقبل ومبرراتهم بأن العصر تغير وهذا التغيير لا يمكن مقاومته بل لا بد من مواكبته والسعي لتطوير الأساليب الصحافية، وإعادة النظر في مفهوم الصحافة بعد هيمنة وسائل التواصل الحديثة وفضائها الواسع.
والمبرر الآخر أن الجيل تغير وأنه لم يعد يحب القراءة بل أصبح يفضل أنواعاً أخرى هي أقرب له وأسرع.
وبين المتشبثين بالصحافة الورقية ومبرراتهم بأنها هي الأساس الذي لا يمكن هدمه؛ لأن الخضوع لهذا التغيير يعني هدم الثوابت القومية التي في هدمها اضمحلال المجتمعات الإنسانية مثل اللغة وقواعدها وجمالياتها والقيم الخاصة بكل مجتمع.
والفلترة التي تمتاز بها الصحافة الورقية عن نظيرتها من الصحافة الإلكترونية.
وقد يستغرب - القارئ الكريم - سبب هذا الجدل العقيم بين هؤلاء القوم وبعضهم البعض, ويرى أقل الناس حكمة أن الحكمة تكمن في الاعتماد على هذين النوعين معاً وهذا - بالفعل - ما قامت به أغلب الصحف، حيث أنشأت مواقع لها عبر الشبكة العنكبوتية, مع احتفاظها بنسختها الورقية وإن قللت من عدد إصداراتها واستغنت عن أغلب كتابها وموظفيها, ولكن الأمر ليس بهذه السهولة؛ لأن التغير الحاصل أصبح يشمل التغيير في مفهaوم الصحافة والتقرير الصحفي والمقال الصحفي وأدوات الصحافة في المجمل، بالإضافة للمواضيع ووسائل الحصول على المعلومة.
والخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه وهذا الأمر من أهم الأمور بالنسبة لقوانين الصحافة التي دائماً ما تتمثل الخطوط الحمراء لديها في القيم والأركان الأساسية للمجتمعات وبقاء هذه الخطوط يكفل بقاء المجتمعات ومنع زوال حضاراتها.. وفي نظرة موضوعية لهذا الأمر يمكن القول إن من ينادي بإيقاف الصحافة الورقية هو مثل من ينادي بقتل الحضارات ووأدها وذلك للأسباب الآتية:
- الصحافة تمثل الإجماع البشري والعقد المُبرم بين الأفراد ومجتمعاتهم لتشكيل النظرة العامة تجاه أي أمر يمس حياة تلك المجتمعات وهي وسيلة اتصال وتواصل فيما بينهم.
- التغير الحاصل لا يقوم على أمر ثابت لذلك هو تغيير طارئ سيتغير بتغير ظروفه ومثل هذا التغيير يُعزيه علماء الاجتماع إلى الطفرات في وسائل الحضارة.
- الصحافة الإلكترونية قائمة على التغيير في وسائل التواصل التي ستنقطع تحت أي تغيير مناخي أو بيئي أو اجتماعي ويظل الأساس التواصل الورقي بجميع وسائله حتى البدائي منها.
بناء على ذلك ولكل مجتمع يريد البقاء لحضارته عليه بالآتي:
- تدوين حضارته وأمجاده وقِيمه بالوسائل الدائمة التي أثبتت ثباتها على مر العصور والتغيرات الحاصلة وهي الشعر والنثر (القصص).
- استغلال وسائل التواصل والتطبيقات والمنصات للجذب للصحافة الورقية وقيم الصحافة من خلال عدم النشر الكامل على شبكات التواصل بل جزء منها أي بمعنى استخدامها للدعاية وليس للنشر.
- استغلال عنصر الإثارة عند طرح الأخبار بمعنى أن الأخبار يتناولها الجميع ويعلم بها الجميع، ولكن هناك قصة خلف كل خبر فإذا استغلت الصحافة الورقية ذلك الجانب تفوقت على الصحافة الإلكترونية ووسائل الإعلام الأخرى.
- ما يعيق بقاء الصحافة الورقية هو العنصر الاقتصادي؛ لذلك في هذه المرحلة على الصحف الرائدة البحث عن استثمارات دائمة تغطي تكاليف النشر والتوزيع مثلاً (مشاريع - بنوك - أوقاف - أسواق).
- على وزارة الثقافة والإعلام في الدول دعم الصحف دعماً معنوياً قبل المادي بتوظيف خبراء في التخطيط والإحصاء والاقتصاد وليكن الدعم المادي متبوعاً بالمراقبة والمحاسبة.
ولنتذكر دائماً أن الصحافة الورقية هي حسناء فاتنة يُمكنها أن تقلب الموازين عندما تستفيق.