خيم علي الحزن حينما وصلني خبر وفاة أبو محمد، المهندس أحمد بن محمد العيسى، حزن أحسست به بشيء من الثقل على تلقي مثل هذا الخبر لأن هذا الخبر يترتب عليه فقد رجل كريم ووفي وأمين، رجل تحب الحديث معه، عند لقائه يأسرك بطيبه وكرمه ومحبته. بدأت علاقتي به رحمه الله بشكل مفاجئ حينما دار بيننا نقاش عن أحد الأعمال في مكتبه وكان مستاء من أمور عددها لي بحكم عملي آنذاك، كنت أتأمل ما يقول كلمة بكلمة حتى قال كل ما لديه، بدأت بشرح النقاط التي ذكرها وسرت معه رحمه الله في تفاصيل كان بحاجة إليها لتتضح الصور. بعد النقاش كنت قد توقعت أن ينتهي بنا الأمر عند هذه اللحظة إلا أنني تفاجأت باتصاله رحمه الله يطلب مني أن أقدم نفس الشرح لمجموعة قيادات لعدد من الشركات المتحالفة اختارهم هو، رحبت ونفذت وبدأت علاقة مع أبي محمد استمرت لسنوات.
عملت مع أبي محمد في عدة أماكن بحكم عملي في الاستشارات وإدارة الأعمال والمشاريع الكبرى، وكنت قريبا منه في عدد من المهام التي يتوجب عملي القيام بها، وجدت أبا محمد شخصية رائعة يصغي لك عندما تتحدث ويحاول فهم ما تقول ويدور الكلام بينكما حتى يفهم ومن ثم يناقش، لا يستعجل إذا رأى في الرؤية مصلحة، يحزم إذا رأى أن الأمر ذهب لغير ما خطط له. اتسعت العلاقة معه رحمه الله إلى جوانب أخرى، وكان دائما ما يحدثني عن المصاعب التي يواجهها أحياناً في إقناع مجالس الإدارة التي يعمل معها أو اللجان التي يرأسها وكان يقول لي إن مبدأه بذلك هو أن يسمع من الجميع ويبين ما يريد وأنه يحاول دائماً أن يبني تصوراً مشتركاً يتم الاتفاق عليه، وقال لي مرة أن سبب قناعته بأنه من الممكن أن يقتنع الجميع «أنه لا يوجد شخص يريد أن يضر العمل بشكل مقصود». لا يتسع المقام لذكر شخصيته العملية رحمه الله، فهو الماهر صاحب المهنة المحترف ودوره في العديد من المشاريع المهمة. يكفي أن أقول إنه بدأ مع صاحبه في فكرة بسيطة بإنشاء جمعية مساجد الطرق التي بدأت بذرة وأصبحت اليوم جمعية كبيرة ذات أثر ممتد. تحولت الجمعية إلى نموذج يحتذى به وفي آخر أيام أبي محمد رحمه الله دخلت الجمعية في تقديم الخدمات للحجاج بالمشاعر المقدسة لما كونته من خبرات. يا له من أثر كبير وعمل عظيم ذلك العمل النابع من فكرة أصبحت خدمة مرتكزة على أسس منهجية امتدت لتخدم جميع مسلمي العالم حينما يأتون حجاجا. إنه لمن المهم أن ننظر لجانب آخر من شخصيته العملية رحمه الله، وهو كيف كان يفكر؟ كان يفكر على المدى الطويل وينظر إلى أثر عمله ومن ثم يعمل على خطين متوازيين الأول الديمومة والثاني التراكمية، لم يحدثني بذلك أبداً، بل أن كل ما سمعته ورأيته منه في العديد من المواقف والأعمال يصب فيهما. كنت ألاحظ ذلك بأفعاله لا أقواله وكدليل عملي على ذلك أنه حينما أسس الجمعية كان يراها ممتدة على الطريق كصيانة للمساجد، ولكنها بعد مدة أصبحت وعاءً مالياً لبناء مساجد ذات معايير هندسية مميزة على الطرق ومن ثم حولها رحمه الله إلى أداة وفاء ومحبة للآخرين تبني المساجد لأهلها. الجانب الثاني أنه رحمه الله فكر في الديمومة المالية وقد أخبرني رحمه الله أن الجمعية لديها فكر استثماري وقد بنيت بشكل مؤسسي مالياً لتضمن استمرارية أعمالها، إنه الفكر الذي يبقى ويؤثر ولا شك أنه يمتد كأثر يبقى. يجمع علماء وخبراءوممارسي الإدارة وأن هذين المرتكزين هما أهم عوامل النجاح.
أبو محمد الإنسان الوفي، أبو محمد الإنسان الذي شعر بقيمة حياته ذات المدة المحددة، استثمر كل دقيقة بها، رحمه الله وغفر له، أبو محمد ذلك الإنسان الراقي، استمرت علاقتي به رحمه الله وكان رفيعاً عالي الجانب لا يقلل من قدر نفسه ولا يضعها إلا فيما تستحق، لا يغتاب وحينما ينقل وجهة نظر لا يضفي لها وجهة نظره بل يسمعها الفريق منه كما هي، إنه يحافظ على الحقوق ويهتم في الخيط الرفيع بين الحق والباطل. كان بسيطاً لا يتكلف، ولكنه بنفس الوقت عميقا لا يسطح الأمور، لا يأخذ الأمور ببساطتها ويتعامل معها على أنها نار تحتاج إلى إطفاء، بل كان يتعامل معها على تحليلية واضحة تمكنه من فهمها والتعامل معها له. كان جميلا، رائعا مهذبا، كان روح من التسامح والعطاء، كان حباً يتدفق وخيراً يمتد، كان لا يصعد الأمور، ولا يحمل الضغينة، كان متسامحاً وكنت رأيت ذلك منه في عدة مواقف، كان لطيفا بحديثه يصف لك ما يريد وكأنه يروي قصة ممتعة، حديث متسلسل مركب لغرض يريده رحمه الله، لم تكن حظوظ نفس، استمر وفياً مع أصدقاء والده رحمه الله، تلك علاقته بوالده رحمهما الله التي اكتشفتها معه بالصدفة، حين كنت أقرأ في كتاب وسم على أديم الزمن للدكتور عبدالعزيز الخويطر رحمه الله، لاحظت أن اسم محمد العيسى قد تكرر عدة مرات، فأرسلت لأبي محمد رحمه الله أسأله عن هذا الرجل واكتشفت أنه والده. عرفت قصصا لوالده كثيرة ومن ثم فتح باب كبير استمتعت به حينما بدأ أبو محمد يحدثني عن والده وأصدقاء والده وأخباره، ذكر لي ظهر الجمعة وجلسات الأنس ويتذكر ذلك بتفاصيله رحمه الله، فبدأ أبو محمد رحمه الله بسرد ذكريات جميله عززت الروايات التي اطلعت عليها، حكى لي عن والده رحمه الله، امتد في الحديث عن أصدقاء والده رحمه الله الذين استمر أبو محمد بزيارتهم، يقول لي رحمه الله إنه يزورهم في العيد وأن آخر صديق لوالده كان لا يزال على قيد الحياة قد زاره يعايده ويسلم عليه. رحمه الله فهو لا ينسى الحديث عن والده والحديث عن أصدقائه ويبقي ذكرهم بين الناس حيا لا يموت. في إحدى زياراتي له، كان قد مرت أيام على وفاة الدكتور ناصر السلوم رحمه الله وزير المواصلات الأسبق، وتحدثنا عن الدكتور ناصر وما فعله من أعمال، أخبرني أبو محمد رحمه الله أن الدكتور ناصر كان سبباً في نمو العديد من المقاولين السعوديين الذين نراهم اليوم كبارا في الاقتصاد حيث كان يطلب أن يتم إشراك المقاولين السعودين المبتدئين بأعمال الطرق مع الشركات العالمية، اقترحت عليه رحمه الله أن يجمع الروايات الشفهية كتسجيلات صوتية ليتم إفراغها لاحقاً بكتاب بتناول هذا الجانب من أعمال الدكتور ناصر رحمه الله ووعدني أن يتواصل مع المقاولين كافة وأنه سيذكر في مقدمة الكتاب أنني من اقترح هذه الفكرة.
وداعا أبا محمد، وداعاً أيها الوفي، إلى لقاء في جنة الخلد، وداعاً أيها الرجل النبيل، وداعا تلك المحبة الصادقة، وداعاً لتلك الأيام التي جمعتني بك وتلك الأفكار التي تداولناها، وداعاً لك وخلوداً دائماً لأثرك الممتد بإذن الله. سندعو لك حينما نقف في طرق السفر ونصلي في مساجد الجمعية، سندعو لك لأنك بنيتها على أسس الديمومة المالية حتى تبقى، سيدعو لك الحجاج في الطرق المؤدية إلى الحرمين سيبقى أثراً ممتداً، وسيبقى اسمك لامعاً في المشاريع الاستثمارية التي كنت جزءا منها، أسأله الله أن يجعله عملاً متقبلاً منك والحمد لله على كل حال و{إنا لله وإنا إليه راجعون}.
**
- م. عبدالرحمن حمد الخويطر