يسعى القاص ظافر الجبيري منذ مشروعه القصصي الأول (أسنان الغزال) حتى عمله الجديد هذا (الهروب الأبيض) إلى بناء قاعدة حكائية واضحة ينطلق منها، ويبث من خلالها لواعج شخوصه، وهواجس لغته وتداعيات الأحداث في كل قصة، فهو إلى جانب هذا التوحيد لبناء الحكاية نراه وقد عمد إلى تكنيك الومضة الحديثة كما في القصة الأولى (صاحبي) الذي أوماء إلى بعد اجتماعي مهم من خلال الطالب الذي يحافظ على هدوئه، وسكونه واقتصاده في الكلام مع من حوله رغبة في كتمان واقعه الاجتماعي الأليم.
فالقاعدة الحكائية لدى القاص الجبيري تتمتع بقوة أسلوب يجمع النقائض، ويوحد الفرقاء ويصوغ من خلال مقولاته لغة تفضي إلى المواءمة، لنجد أن القصص يجمعها رابط واحد هو اللغة السردية الهادئة التي تحاول أن تلتقط المفارقة في أي مشهد حياتي على نحو قصة (نزهة) والتي عني فيها الكاتب لتأخذ شكل الشهادة الخاصة على عالم تزداد خصوصيته كلما اتسعت احتمالات العالم الآخر من حوله.
ينتقي القاص الجبيري المواقف الإنسانية ذات الطاقة العالية من العاطفة على نحو استدعاء عوالم الطفولة في قصة (جدي والجبل) فالقصة تعيد ترتيب الذاكرة حينما تتأمل المشاهد البريئة للصغار في لحظة تأملهم للحياة ولا سيما الجد وجبال قريتهم (جبل جدي) حيث تشرق اللحظة في التأمل واستعادة الذكريات فقط دون المساس بهيبة الماضي المتمثل في الجد الذي قد يضيق ذرعاً بأسئلة الأحفاد.
تسير القصص في مجموعة الهروب الأبيض على هذا النحو التأملي، واستدعاء الذاكرة، ونبض المخبوء من الحكايات المشبعة بنكهة الماضي الذي يتأمل فيه البطل كثيراً، ويطنب في وصفيات تقارب بين جماله وروعة الحكايات عنه.
قصص الجبيري تختار جانباً آخر من لغة القصص حيث تتجه نحو بناء مقاربة بين حكاية الماضي، وقصة الحاضر بوصفها فناً يحتاج منَّا إلى حسن إنصات وتأمل، فالقصص تأتي على هيئة لوحات عني القاص بأوانها وبرائحة تفاصيلها، ونكهة وجودها الأصيل في الوجدان الذي لا يمكن له أن ينسى مثل هذه التفاصيل الجمة والمؤثرة في الذاكرة.
جل القصص تدور على مفهوم استعادة التفاصيل القديمة.. تلك التي يسعى القاص من خلالها إلى تدوين مرحلة مهمة من مراحل بناء الوعي لدى الإنسان، ففي قصة (الرقبة) تتأصل الذكرى الأليمة، لتقوم معادلة الإنسان الذي بات يعاني ظلم الآخر، وجوره حتى هاج مدافعاً ليتحول المشهد من رجل قوي مدجج بالنياشين وبالسلطة إلى مجرد فريسة متهالكة بين يدي هذا الرجل الذي كان قبل برهة بائساً خائراً.
رؤية الواقع من منظور قصصي هي ما يمكن لنا أن نطلقه على قصص (الهروب الأبيض).. فالشخوص والأحداث لا يرغبون ولا يفضلون أن يكونوا أكثر خيالية، إنما همهم الوحيد هو عكس صورة واقعية للحياة على نحو قصة (حديقة الحياة) حينما صور المقبرة والقبور وبما بينها من شجيرات وأغصان وما يحثى فيها من تراب هو من قبيل رسالة الواقع الحياتي الذي يسير كناعورة أبدية لا يمكن لها أن تتوقف إلا لتحمل مزيداً من الأسماء إلى دار الفناء.. نحو قبور متراصة يعلوها التراب الذي يشيء بأن هناك من هو راقد بوقار صمته الأبدي.
لنقل أخيراً أن القاص ظافر الجبيري قد عني كثيراً بالحكاية التي تدخل في قالب القصة ولم يكن معنياً في خوض غمار التجريب في بناء سرد قصصي يوظف الأسطورة أو يركن إلى اللغة المجردة، إنما ظل وفياً للنص التقليدي الذي يتكئ على الحكاية بوصفها حالة إنسانية متكاملة الوجود.
****
إيماءات:
- الهروب الأبيض (قصص).
- ظافر الجبيري.
- منشورات النادي الأدبي بالرياض.
- المركز الثقافي العربي- بيروت.
- تقع المجموعة في نحو (125 صفحة) من القطع المتوسط.