انعكاس قوانين نيوتن على المذاهب الإنسانية
في عالم الإنسان وما يتعلق بأفكاره ومعتقداته ومشاعره وما تصوغه هذه الأفكار والمشاعر من بناء اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي وما تقوده معتقداته إليه من نظر نحو الكون والحياة، لا يوجد قانون عام يحكم أي مجال من هذه المجالات بحيث تندرج أفراد هذه المجالات تحته ويجعل الناس متفقين على هذا القانون وملزمين به، ذلك لأنه هذه الأفكار والمشاعر والمذاهب لا تدخل في أنبوبة اختبار، ولا توصل بدائرة كهربية، ولا توزن كتلتها أو تقاس حرارتها بآلة قياس كما أنها لا تخضع لقانون رياضي معلوم، على أن الأمر يختلف في عالم المادة تمام الاختلاف فلكل معدن مقدار تمدد بالحرارة ودرجة انصهاره بها، لا تختلف أفراد هذا المعدن عنه، وكل فلز له توصيل كهربي لا يتغير، وكل سائل له درجة غليان ودرجة تجمد لا تختلف، كما أن كل الكتل تتجاذب بحسب ما تحويه من مادة، وكل الشحن الكهربية تتجاذب أو تتنافر بحسب طبيعة شحنتها، لذلك بُهر علماء وفلاسفة المجالات الإنسانية بدقة وضبط القوانين التي تحكم المادة وأقلقهم عدم خضوع مجالاتهم لقانون أو قوانين يكون لها مثل هذا الضبط والأحكام، فلم ير أغلب هؤلاء العلماء ما يمنع من الاستفادة من قوانين المادة فيما يحكم مجالاتهم وكانت قوانين نيوتن والقانون الثاني من قوانين الحركة الحرارية - كما سيأتي - وما عضده من نظريات أقرب القوانين التي حاولوا الاستفادة منها بتطبيقها على مجالات العلوم الإنسانية.
قوانين نيوتن الثلاثة تتوحد في دلالتها الفلسفية، أي أنه يمكن أن يستنتج منها شيء واحد يمثل حقيقة ثابتة، إن القانون الأول ينص على أن أي جسم يبقى على حالته الطبيعية من السكون أو الحركة في خط مستقيم وأن الخروج عن هذه الحالة - وهو الأكثر انتظاماً واقتصاداً - لا يأتي إلا بتدخل قوة خارجية، كما يؤدي القانون الثاني إلى نفس النتيجة عندما ينص على أن معدل التغيير عن المسار الطبيعي الأكثر اقتصاداً يزداد أو يقل بزيادة أو نقص القوة الخارجية المؤثرة، ثم يأتي القانون الثالث وكأنه تأكيد للقانونيين السابقين، إذ يوحي بالتصادم كلما تعرض الجسم لمؤثر يحرفه عن مساره وقد ظهر أثر دلالات هذه القوانين في كل من دراسة التاريخ والسياسة والاجتماع والاقتصاد، كما غير القانون الثاني من قوانين الحركة الحرارية وما عضده من كشوف نظرة العلماء إلى الكون في بدئه وصيرورته.
أ - أثر القوانين السابقة
في التاريخ:
كان معظم المؤرخين إلى نهاية القرن السابع عشر تتجاذبهم نظريتان أو عقيدتان يفسرون بها حركة التاريخ، النظرية الأولى هي نظرية الدورة المتعاقبة للتاريخ وهي تعني أن التاريخ يسير في حقب متوالية تبدأ بمستوى أعلى لحضارة البشر ومستوى حياتهم ثم يصير هذا المستوى إلى الانحطاط حتى يصل إلى الدرجة الدنيا من السلم ثم يعود إلى دورته الأولى، على حين ترى النظرية الثانية أن التاريخ يتحرك في مسار منحدر ذي ميل سالب سيؤدي به إلى نهاية واحدة وكان (جاك تورقو Jagues Torgot) أستاذ التاريخ بجامعة السوربون ممن يدرس هاتين النظريتين ويقررها على طلابه، وفجأة دخل على طلبته وطالبهم بأن يتخلوا عن كل ما كان يدرسهم عن حركة التاريخ لأن ذلك هراء وأن التاريخ يسير في خط مستقيم ذي ميل موجب أي صاعد وأن كل حقبة من التاريخ تفضل ما قبلها(9).
وما أظن ما كتبه (هيجل F.Hegel) عن فلسفة التاريخ ومسيرة العقل في التاريخ إلا تأثراً بهذه القوانين.
ب - تأثيرها في جانب السياسة والاجتماع
يظهر تأثير هذه القوانين واضحاً فيما كتبه (جون لوك John Locke) وهو فليسوف اجتماعي وسياسي أدرك نيوتن وتأثر به ومن سبقه مثل (بيكون وديكارت)، انعكس أثرهم فيما كتبه عن السياسة نحو الفرد والمجتمع في كتابه المعروف (رسالتان في الحكومة)، لقد جاء ما كتبه نقيضاً مغايراً لما كتبه كاتب آخر سابق لنيوتن في هذا الشأن هو (توماس هوبز) المتقدم ذكره، فبينما يرى هوبز أن الإنسان شرير بطبعه وأنه لابد من سوط الدولة لترد بطشه، يرى لوك أن الإنسان خيِّر بطبعه وأن أفضل أنواع الحكم ما يكون أقل تدخلا في نشاطه الاجتماعي والاقتصادي، إنه يقول: (إذا تخلينا عن الموروثات والتقاليد التي تحكمنا فسوف نتبين أن المجتمع مكون من أفراد غايتهم زيادة وحماية نصيبهم من وسائل العيش، والمنفعة الشخصية للفرد هي التي يجب أن تكون الأساس لإقامة الدولة، فالغرض من وجود الدولة وواجبها أن تعطي الحرية للفرد لكي يستفيد من كل مواهبه تجاه الطبيعة لزيادة غناه)، وفي الإجابة على السؤال أو الاعتراض القائل: أليس إطلاق يد الفرد للتسابق على التملك والمنفعة يسبب نزاعاً بين أفراد المجتمع قد يؤدي إلى الاقتتال بينهم؟ أجاب لوك: (أن ذلك لن يؤدي البتة إلى ما ذكر لأن الفرد ليس شريراً بطبعه، والشيء الذي يؤدي إلى النزاع والاقتتال هو شح الموارد لعجز الفرد أو خموله في استغلال موارد الطبيعة، ولو أتحنا لكل فرد الحرية لعمل كل ما يستطيعه لما حدث نزاع أو خلاف، أن الذي يستصلح أرضاً لمنفعة نفسه لن يضر بالآخرين، بل إن عمله زيادة في رصيد ثروة المجتمع، لذلك فإن أفضل الأنظمة السياسية ما كان محاكاة لقانون الطبيعة في الأشياء المادية)(10).
ج - أثر هذه القوانين في الاقتصاد
كما تأثر (لوك) بنموذج نيوتن، فتن به (آدم سميث Adam Smith) عالم الاقتصاد الإنكليزي التي لا تزال فلسفته الاقتصادية التي أصلها في كتابه ثروة الأمم (The wealth of nation) المنبع الأدبي والروحي للاقتصاد الحر الذي تتبناه معظم دول الغرب ومن يرى صواب هذه النظرة من غيرهم.
تقوم فلسفة آدم سميث الاقتصادية على المنطق التالي:
بما أن الأجرام السماوية صارت لها ديمومتها وانتظامها لأنها تتحرك بقوانين طبيعية ثابتة بتأثير عامل خارجي يطرأ عليها، فما الذي يمنع أن يخضع الاقتصاد لنفس الطبيعة، إن تحقيق النمو الاقتصادي لا يأتي إلا من هذا الطريق، إن كل تنظيم تضعه الدولة أو تقييد لحرية الاقتصاد هو مخالفة بل إيقاف لهذا القانون الطبيعي، أن فحصنا لطبيعة الاقتصاد ستقودنا إلى نتيجة حتمية وهي أن القاعدة المثلى للنمو الاقتصادي هي (دعه يعمل Laissez Faire).
آدم سميث يعترف أن النفع الشخصي هو المحرك لكل نشاط إنساني ولكنه يضيف أن ذلك أمر طبيعي ومشروع وأن ذلك في نهايته يؤدي إلى مصلحة المجموع، أنه يقول: (إن كل فرد يجتهد لإيجاد أفضل الوسائل لكي يفيد نفسه، فمصلحته وليست مصلحة الآخرين التي تختمر في ذهنه، ولكننا نجد بقليل من التأمل أن مصلحة هذا الفرد تقوده إلى أن يفضل الطريق التي تفيد المجموع، إن أي قيد على الاقتصاد سيصادم (اليد الخفية) التي هي القانون الطبيعي للاقتصاد(11).
د - في الجانب الاجتماعي
كتاب جان جاك روسو (العقد الاجتماعي) منذ صدوره وهو أحد المعالم البارزة في علم الاجتماع، ومحور رأي روسو في كتابه هو أن أفضل الأنظمة الاجتماعية هو ما قال على عقد مقبول يضعه أفراد المجتع، وترك المجتمع بطبيعته دون تدخل جهة خارجية.
وكون هذا الرأي جاء انعكاساً لقوانين نيوتن أو تأثراً بها لا يؤكده الاشتراك في الدلالة فحسب ولكن يؤكده بجانب ذلك أن في الطبيعة الأولى لأعمال (روسو) لوحة تمثل الروح التي تطبع الثقافة والفكر في عصره، هذه اللوحة هي صورة مشهد ريفي لحقول خضراء إشارة إلى الطبيعة وبجانب ذلك صورة لـ(روسو) جالسا على منضدة للكتابة وليس على هذه المنضدة سوى كتابين، الأول هو مبادئ الرياضيات لـ(اسحق نيوتن) والثاني كتاب (لوك).
هـ - في الجانب الديني
سبق القول إن الدعامتين التي يقوم عليها الفكر الغربي فيما قبل ما يعرف بعرض التنوير هما الديانة المسيحية والفلسفة اليونانية، وكان للثانية ما يقرب من الأولى في التقديس، وإذا كانت هذه الصورة عن الفلسفة اليونانية قد تضعضعت وانهارت قد سبقها بما كتبه (بيكون) وما جاء بعده فإن مكانة العقيدة الكاثولوكية قد اهتزت في أذهان الناس ومشاعرهم بما كشفه (كوبر نيقوس) و(جاليلي) و(ديكارت) ثم ما أصله (نيوتن) بقوانينه الأربعة، لقد استنتج أغلب العلماء وذوي الفكر في الغرب من هذه الكشوف أن الكون آلة كبيرة تخضع لقوانين ثابتة لا تتغير ولا يحيد الكون عن الخضوع لها، لذلك جاء معظم المذاهب الفلسفية التي عاصرت هذه الحقبة أو تلتها انعكاساً لما فهموه من هذه القوانين على هذا الأساس، جاء المذهب الحسي والمذهب التجريبي والمذهب الوضعي والمذهب الذرائعي ولفت الناس عمامة من الشك في الموروث من المذاهب والمعتقدات، كان للمقالات التي كتبها الكاتب ذائع الصيت (فولتير) في نقده لحال الكنيسة وتسلطها النصيب الأكبر كما سبق ذكره، وقد استدل بعض الطبيعيين من القانوني الأول على سرمدية الكون، وانتفى البحث لما وراء المحسوس ورأوا أن البحث فيما لا يشاهد ويجرب ويحس أو ما يثبت بالاشتقاق الرياضي حدس لا يسنده أساس، بقي هذا الشعور سائداً على كثير من العقول والمشاعر، ولم تبدأ بوادر ظهور خطأ هذا الموقف إلا مع كشف العالم الفيزيائي الألماني Rudolf Calusius قانونه المعروف بقانون الاختلال (Entoyopy) وهو القانون الثاني من قواني الحركة الحرارية وقد جاء ذلك في أواسط القرن التاسع عشر، هذا القانون ينص على أن أي نظام معزول - والكون في تعريف الفيزيائيين نظام معزول - لابد أن يكون على درجة من الاختلال أكبر من الصفر وهذا الاختلال يتراكم ولا ينقص يستمر ولا ينقطع.
دلالة هذا القانون تخالف مخالفة تامة دلالة القانون الأول من قوانين نيوتن، فبينما يستدل من هذا القانون على سرمدية الكون ينص قانون الاختلال بأن الكون سائر إلى حالة من التبدد والاختلال حتى يصل إلى ما يعرف بـ(الموت الحراري Heat Death).
قانون الاختلال من أقوى القوانين الطبيعية ولم يوجد حتى الآن رغم التحديات التي اعترضته ما يناقض صحته أو شموله، بل جاءت أقوى الكشوف والنظريات التي جاءت بعده مثل كشف عالم الفيزياء الأمريكي (أدوين هبل Edwin Hubble) ونظرية (الانفجار الكبير Big Bang) التي هي إحدى حلول بعض معادلات النسبية العامة مؤيدة ومتفقة مع ذلك القانون.
وكما جاءت هذه الكشوف مشيرة بأن للكون بداية ونهاية بخلاف ما فهم من قوانين نيوتن، فإن علم (آلية الكم Quantum Mechanics) قد جعلت للحتمية والقطع والوثوق وما إلى ذلك مما تدل عليه قوانين نيوتن حدوداً معينة يأتي بعدها، الشك والاحتمال وعدم القطع.
وهكذا نرى أنه بينما كانت الكشوف العلمية تكف نفسها في الماضي عن إظهار ما يؤيد أو يعارض الدين فقد بدء ينكشف من هذه الكشوف ما يبدو متفقاً معه.
انتهت
(9) J.RIFKIN. The Emtropy.
(10) J.RIFKIN, The Emtropy.
(11) ADAM Smith, Am inquity into the nature and couser of the wealth of nations, Edwin Camon, 1961, 475.
الرياض