إذا أردت أن تكون من النخبة، فليس عليك أن تسمع الموسيقا العربيّة، وليس من الضروريّ أن تعرف شوبان، وفيفالدي، وكورساكوف، لأنّ النخبة اليوم تسمع الموسيقا الفارسيّة، والهنديّة، والكرديّة، والبشتونيّة، هذه هي (الموضة).
لا شكّ في أنّ للجماليّ طبيعة موضوعيّة، ذلك أنّ المفاهيم الجماليّة مفاهيم موضوعيّة، فمفهوم (الجميل) و(القبيح) و(الجليل) و(التراجيدي) و(الكوميدي) و(المعذّب) مفاهيم قائمة، ومجرّدة، وموجودة بمعزل عنّا، لذلك هي ملك للناس جميعاً، وللثقافات كلّها، ومن هنا يأتي الإجماع على بعض ظواهر الواقع والطبيعة، بأنّها جميلة أو قبيحة أو جليلة أو سامية.. لكنّ للمفاهيم الجماليّة بعداً اجتماعيّاً أيضاً، لأنّ الإنسان يدخل معها في علاقة اجتماعيّة - تاريخيّة، فيضفي عليها هذا البعد الاجتماعيّ، وكلّما توسّعت دائرة الممارسة الاجتماعيّة، وتعمّقت العلاقة بين الإنسان وظواهر الطبيعة والواقع، اتسعت دائرة المعرفة، لتعود فتوسّع دائرة المفهوم الجماليّ.
يقضي ذلك بأن للمفهوم الجماليّ دوراً معرفيّاً أيضاً، إذ يزيد معرفتنا بالظواهر والأشياء، وينمّي لدينا الخصائص الفرديّة، لأنّنا لن نعرف إلاّ إذا فصلنا ذواتنا عن تلك الظواهر والأشياء.
يمتلك الجماليّ طبيعة ثقافيّة، فأفراد الثقافة الواحدة، بوصفهم عناصر بنية واحدة، سيدخلون في علاقة مع ظواهر الواقع، تنتج تاريخيّاً تقويمات جماليّة خاصّة بهم، تتدرّب عليها حواسّهم، وتألفها، فيصير للشعور الجماليّ حينئذ طبيعة ثقافيّة أيضاً، فما يثير العربيّ جماليّاً، غير ما يثير الأوربيّ، أو الصينيّ، أو الفارسيّ، وما يثير الفرنسيّ غير ما يثير الإنكليزيّ، وما يثير المسلم غير ما يثير النصرانيّ، أو اليهوديّ، أو الأمازيغي أو الكرديّ، بل المسألة أضيق من ذلك.
إنّ هذا ما تنبّه العرب إليه في مرحلة متقدّمة من تاريخهم، فقد أشاروا إلى أنّ الشعور الجماليّ ذو طبيعة ثقافيّة، من ذلك قولهم: (إذا أردت أن تطرب قرشيّاً فغنّه شعر عمر بن أبي ربيعة في لحن سريج، فإنك ترقصه).
تسود اليوم فكرة الجمال الإثنيّ، وتتصدّر عالم الديكور، والأزياء، والمجوهرات، فيقبل عليها الناس لأنها دارجة، ولأنّ التصاميم العالميّة تُستوحى منها، من غير معرفة بمرجعية هذه (الموضة) وبفلسفتها.
كان الناس،عموماً، يستهجنون بعض تفاصيل حياة الآخر لأنهم لم يألفوها، ولأنها غريبة عنهم، أو ليست من عندهم، بدءاً بالطعام، وليس انتهاء بشكل الآدميّ، فحينما كان الناس يلقون أوربياً أزرق العينين، أشقر الشعر، بصحبة زنجيّة، أو العكس، يستنكرون متسائلين: ما الذي أعجبه فيها! وما ذلك إلاّ لأنّ الذات لم تعتد تلقّي خصائص الآخر الجماليّة.
لكن مع تنمية الخصائص الفرديّة، وعزل الذات عن الجماعة، بالممارسة الاجتماعيّة، والتجربة، والاطلاع، اتسعت دائرة الجمالي وتمكّن المرء من إدراك الخصائص الجماليّة لثقافة الآخر، ومن هنا صارت النخبة الحقّة تنفعل جمالياً مع الموسيقا الفارسية، أو الإفريقية، أو موسيقا غيرهما من الشعوب، لقد استوعبت معايير الآخر الجماليّة.
إنّ للجماليّ طبيعة متحرّكة، فقد تسود في الثقافة الواحدة جماليّات ثقافة أكثر من جماليّات ثقافة أخرى، وذلك وفاقاً لمجموعة من الظروف المتشابكة إيديولوجيّة أو سياسيّة... ليس الشعور الجماليّ بالخصائص الجماليّة للآخر، أرقى من الشعور الجماليّ بالخصائص الجماليّة للذات، فكل منهما يسدّ حاجة ما، وكل منهما يختلف في بعض آليّات حدوثه عن الآخر، فالشعور الجماليّ بخصائص الذات ترافقه مشاعر الاعتزاز، والحماسة، أمّا الشعور الجماليّ بخصائص الآخر يرافقه شعور بالغبطة الإنسانيّة، وبالحنين، ربّما إلى الذات التي صدرت عنها البشريّة...
الشعور الجماليّ موضوعة معقّدة، إلا أن الناس يرتدون ما هو مستوحى من الثقافات من غير أن يسألوا (لماذا؟)، ويبنون بيوتهم على طرز معماريّة - ثقافيّة متنوّعة، ويزينون جدرانها بالأقنعة، والأسلحة، والتحف التي تنتمي إلى زامبيا، وجورجيا، واليونان، والهند... بل يذهبون إلى مطاعم آسيويّة من غير أن يبتهجوا بالطعام الآسيوي، وليس ذلك إلاّ لأنّ الجمال الإثنيّ يتصدّر السوق.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244