في روايته الرائعة (قصة مدينتين)، التي تروي حكاية مدينتي لندن وباريس في نهاية القرن الثامن عشر، وهو قرن الانتشار الرأسمالي الواسع في العالم، عبر الاستعمار والنهب المنظم للثروات والمواد الخام من الدول المستعمَرة، تحدث الروائي البريطاني الشهير شارلز ديكنز عن أزمة مالية قاسية ضربت فرنسا، جعلتها (تنحدر انحدارا متسارعا، فطفقت تصدر النقد الورقي وتنفقه).
أما إنكلترا التي كانت أفضل حظا من شقيقتها فرنسا فيذكر ديكنز أن الحال فيها لم يكن جيدا تماما، فقد (كانت عصابات جريئة من الرجال المسلحين وقطاع الطرق تسطو على العاصمة (لندن) نفسها كل يوم (...) وكان قاطع الطريق في الليل هو تاجر المدينة في النهار). ويمضي مستطردا (وكثيرا ما كان أحد قطاع الطرق يصد ذلك الحاكم الجليل، الذي يسمونه محافظ لندن، عن سبيله، عند تورنهام غرين، ثم يسلبه، وهو الشخصية الكبيرة اللامعة، كل ما معه، على مشهد من حاشيته).
جرت في النهر مياه كثيرة، وتغيرت الأوضاع في لندن وباريس كثيرا، بعد أكثر من قرنين، من الفترة التي كتب عنها ديكنز.. لكنها لم تتغير. لم تعد الفوضى والعصابات المسلحة، التي وصفها ديكنز بالجرأة، تعيث فسادا في شوارع لندن ولا باريس ولا سواهما من مدن العالم الغربي الغني. لقد صُدّرت بعيدا إلى شوارع مقديشو وكابول ونيروبي وبرازافيل ومدن أخرى كثيرة حول العالم. ما لم يتغير هو منطق قطاع الطرق الذي لازم الرأسمالية خلال نشوئها وتمددها وهيمنتها على العالم، حيث النقلة بين التاجر (وكل لاهث وراء المال) وبين قاطع الطريق سهلة سلسة ميسرة.
وهل المضاربون وكبار قادة المؤسسات المالية الدولية، الذين يتلاعبون بالأسواق.. يفقرون شعوبا، ويدمرون اقتصاديات، ويرهنون مصائر مئات الملايين من البشر إلى الجوع والمرض والفاقة، أقل سوءا من قطاع الطرق. إن قاطع الطريق قد لا يتضرر منه طيلة عمره سوى بعض العشرات من الناس غير المحظوظين، الذين تسوقهم أقدارهم إليه. أما عصابات المال الدولية التي تتلاعب بمصائر البشر فإن الفرد منها قد يدمر حياة الملايين بجرة قلم واحدة.
وليس زعماء الدول الغنية أقل سوءا من التاجر قاطع الطريق، الذي يحدثنا عنه ديكنز. لقد رأينا أولئك الزعماء يحاضرون فينا طويلا عن الأخلاق وعن أهداف الألفية لمحاربة الفقر والمرض، ثم رأيناهم يكنزون ذهبهم وفضتهم، و(يعجزون) عن جمع 12 مليار و300 مليون دولار لمواجهة أزمة الجوع التي تطحن 972 مليون إنسان في العالم طحنا، بحسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.
أما حين ضربت الأزمة المالية الدولية الراهنة أسواق المال والبنوك في الدول الغربية، رأينا آلاف المليارات من الدولارات تخرج فجأة من مخابئها، وتُصب في الأسواق والبنوك صبا، لإنقاذها من الإفلاس. أما إنقاذ البشر من الآفات والموت جوعا بمبالغ قليلة، بل تافهة، إذا ما قورنت بما أنفق على البنوك الكبرى والأسواق المالية، فأمر لا يستحق الاهتمام ولا العناء.
عبر أقدار كبيرة من العنف والدماء والحروب وعمليات الإبادة، التي عرفتها المرحلة الاستعمارية، وشملت وجه الكرة الأرضية كله، خلال القرون الثلاثة الماضية، أقامت الرأسمالية نظاما دوليا ظالما، قائما على النهب والإفقار في ناحية، وتجميع الأموال والثروات في ناحية أخرى، حتى إن أغنى 5 أشخاص في العالم الغربي الغني، تزيد ثروتهم اليوم عن ثروة البلدان الـ48 الأكثر فقرا في العالم.
إنه نظام قائم على مركز غني متخم، وأطراف فقيرة معدمة، بحسب تحليل عالم التنمية المصري الشهير سمير أمين. ولعل في هذا ما يذكرنا بقطاع الطرق، الذين حدثنا عنهم شارلز ديكنز، فهم يسلبون الآخرين ما عندهم، عبر العنف والقتل، ويكنزون ما يجمعونه لديهم.. الفرق الوحيد في المسألة أن قطاع الطرق أفراد أو عصابات يجرم القانون أنشطتهم وتنبذهم المجتمعات. أما ما يتم في ظل الرأسمالية فتقوم به دول وشركات تجعل النهب المنظم والإثراء على حساب الفقراء عملا قانونيا لا غبار عليه.
ليست الرأسمالية شرا كلها. فقد عرفت البشرية مع النظام الرأسمالي ثورة صناعية غيرت وجه الحياة، ويسرت التواصل بين الناس، بين البلدان وعبر الأقاليم والقارات. وعرفت المرحلة الرأسمالية اكتشافات واختراعات علمية هائلة، لم تعرفها البشرية خلال تاريخها الطويل كله. لكن كل ذلك تم في إطار من الجشع والرغبة العمياء في الربح، فلُوّثت الأرض، وتجاور الموت جوعا مع الموت تخمة، وأبيدت أمم وشعوب بأكملها، وبعضها مهدد الآن بالانقراض، مثل الهنود الحمر وسكان استراليا الأصليون.
لم تكن الأزمة المالية الراهنة، مهما تعقد الوضع الاقتصادي العالمي وتطور وترابط وتداخل، سوى ثمرة للرغبة الجارفة في الربح، رغبة لا تعرف قيمة، ولا يحدها حد. ولقد سبق للفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي أن اعتبر الحضارة الغربية حضارة تعبد الربح وتتطور وتنمو لأجله.. ولأجل الربح قام نظام مالي متراكب طبقات بعضها فوق بعض.. قروض تُشترى وتُباع، وتأمينات على القروض، وتأمينات على التأمينات.. سلسلة آخذ بعضها بتلابيب بعض، وبما أن حلقة من السلسلة قد كسرت مؤخرا، مع عجز صغار المقترضين العقاريين عن سداد قروض منازلهم، فقد تداعى سائر البناء منهارا، مهددا دولا بأكملها بالإفلاس.
الرغبة في تثمير المال وزيادته، دون التقيد بأي قيمة من القيم سوى الربح، الذي لا يعرف الحدود، كشفت عن أن الأزمة المالية هي حقا أزمة قيم.. أزمة أخلاق. في ظل هذه الأزمة يصبح المال والرغبة في زيادته أهم بكثير من الإنسان. يجوع الناس ويمرضون ويموتون.. حتى إن طفلا واحدا يلقى حتفه جوعا ومرضا كل خمس ثوان، في حين يستمر المال يثمّر لزيادة المال، حتى أمسى هدفا لذاته، وصنما يعبد من دون الله.