تقول فاطمة الوهيبي في كتابها (المكان والجسد والقصيدة- 2005م) (أحسب أن في طبيعة المرأة شيئاً مشابهاً لطبيعة الشعرية...وأزعم أن الشعرية كائن أنثوي سواء أكتبت الشعر امرأة أم كتبه رجل، فكلما ازداد جيشانه وقدرة مجازاته على التوالد والتماس بخصوبة مع الوجود واللغة والأشياء كلما بدا أنثوياً أكثر. وكأنما الشعرية أنثى). وتقول أميمة الخميس (مقالة: اللغة المستردة- مجلة دارين ع18/2008م): (ظل السرد أرضاً أنثوية... السرد أرض نسوية لأن المرأة تنصت لما وراء الماوراء، حيث نبض الكون وصيرورته). وضمنياً يمكن هنا استنتاج مثول سرديات شهرزاد الشهيرة. ويمكن كذلك استنتاج أن (الخميس) تربط بين الشعر والذكورية عندما تقول: (فعلى حين أن الشعر هو لحظوي مكهرب بالعواطف ومكتنز بالمشاعر؛ مشاعر الفارس الملتهبة المحتطمة من عل، الشعر نار مشتعلة ملتهبة سرعان ما تخبو، بينما السرد هو ماء وينابيع أزلية، السرد هو ذلك النسيج الذي تنسجه النساء من مادة الأحلام والمنامات الموشاة...)
هاتان وجهتا نظر نسويتان تبدوان متعارضتين! ولكن أحسب أنه بقدر من التأمل يمكن القول إنهما تصبان معاً في مقولة أعم هي: الإبداعية ظاهرة أنوثية. (أقول (الإبداعية) وليس (الشعرية) لكيلا يحدث التباس يؤدي إلى الربط بين الشعرية والشعر وحده دون ظواهر الإبداع الأخرى).
وعلى أية حال فإن ما تراكم خلال السنوات العشرين الأخيرة على الأقل في مجال اللسانيات العصبية والإدراكية وعلم نفس النمو والشعرية الإدراكية يقدم دعماً قوياً لهذه المقولة، مع ما لها من صلة قوية بالنظرية النسوية في تأكيدها على الاختلاف بين الرؤية الأنوثية والرؤية الذكورية للعالم. فالدراسات العلمية في هذه المجالات تبني هذا الاختلاف على اختلاف بين (مخ المرأة female brain) و(مخ الرجل male brain) في عدد من الخصائص منها مثلاً:
1- أن مراكز اللغة والسمع في مخ المرأة تحتوي على 11% من العصبونات neurons أكثر مما يحتويه مخ الرجل.
2- أن المرأة تستخدم في المتوسط 20.000 كلمة في اليوم، في حين يستخدم الرجل في المتوسط 7.000 كلمة
3- أن مخ المرأة أصغر من مخ الرجل بنسبة 9%، ولكن مخها يحتوي على العدد نفسه من الخلايا المخية التي تكون أكثر ترابطاً في مخ المرأة منها في مخ الرجل.
ومن الواضح أن هذه الخصائص ذات صلة وثيقة باللغة والكلام، ومن ثم بمقولة الطابع الأنوثي للإبداعية (الأدبية بصفة خاصة). وعلى هذا فإن المقولة تتجاوز فكرة التشابه بين المرأة والشعرية في (العذوبة والحضور الملح والفتنة غير المفسرة) كما تقول الوهيبي.ومع ذلك كله فإن الواقع الإبداعي يشهد أن الرجال يبدعون الأشعار والسرديات! فكيف يمكن التوفيق بين هذا الواقع والقول بأن الإبداعية ظاهرة أنوثية؟
أعتقد أن وجهة النظر الأكثر إقناعاً في التفسير البيولوجي للظاهرة الإبداعية هي أنها تعمل بين قطبين يتجاذبانها: قطب اللوجوس، أو الأنيموس (بمصطلح كارل يونج)، ومركزه الأساس هو النصف الأيسر من المخ، وقطب الإيروس، أو الأنيما (بمصطلح يونج أيضاً)، ومركزه الأساس هو النصف الأيمن الذي يشير بلاكسلى Blackslee إلى أنه هو المختص بإدراك نغمة الصوت، وتعبيرات الوجه، وحركات الجسم ذات الدلالة المصاحبة للكلام، وأنه المسئول عن إدراك الجوانب العاطفية والصور الخيالية. ومن ثم فإن الأشخاص الذين يسيطر النصف الأيمن لديهم على العملية اللغوية، أو الذين يكون لديهم هذا النصف نشطاً حيث تتركز القدرة الفنية في مناطق مختلفة منه (وتشير بعض الدراسات إلى أنه بصفة عامة يكون هذا النصف أنشط عند المرأة منه عند الرجل)، فإنهم غالباً ما يكونون من الشعراء، وذوى المواهب التخيلية العالية، والبصيرة الحدسية النافذة. ومن ثم فكلما اتجه الانجذاب -لدى الرجل أو المرأة- إلى النصف الأيسر الذي هو مركز التفكير المنطقي والرياضي نكون إزاء إبداعية جافة وشفافة، أو مغسولة بتعبير القدماء. في حين أنه كلما كان الانجذاب إلى النصف الأيمن الذي هو مركز الصور الحسية والخيال الفني وأحلام اليقظة- أو كلما تم تنشيطه واستثارته، فإن اتجاه الإبداعية يكون إلى المعرفة الأنوثية؛ أي إلى الأنيما، أو إلى إحدى (حالات الروح الأنثوية) بتعبير باشلار. وبطبيعة الحال فإن السياق الحالي لا يتيح عقد مقارنات بين خصائص هذه الإبداعية الحقة وخصائص الرؤية الأنوثية للعالم كما حددتها -مثلاً- ليندا شيفرد في كتابها (أنثوية العلم). ولكن المهم هنا هو أن (الرؤية الأنوثية) مفهوم يتجاوز قصر الإبداعية على المرأة. إنها منظومة خصائص إدراكية نسبية يغذيها سياق التجربة الذاتية والموضوعية للمبدع سواء أكان رجلاً أم امرأة.
وأعود مرة أخرى إلى السؤال: لماذا ربطت فاطمة الوهيبي وأميمة الخميس الإبداعية بالمرأة؟ ولماذا انتقلت فاطمة الوهيبي -على الرغم من انطلاقها الصحيح من المفهوم العلمي الذي بدأت به مناقشة هذه الفكرة وهو مفهوم (الأنوثية) الذي ساوت به بين إبداعية الرجل وإبداعية المرأة- إلى المفهوم الجنسي (المرأة) وكأن الرجل بينه وبين الشعرية طلاق؟ أعتقد أن ما يكمن وراء ذلك، ووراء ما ذهبت إليه أميمة الخميس، هو إزاحة ضمنية لارتباط (الرجل) بالجمالية الإبداعية. وهذا بالتأكيد ما لا أظن أن فاطمة الوهيبي أو أميمة الخميس تقصدانه على مستوى الوعي المعرفي. ولكنها -فيما أتصور - مخاتلة الخطاب التي تأخذنا أحياناً بعيداً عن إدراكاتنا الواعية.
- الرياض
muhassebe@hotmail.com