إعداد - عبدالحفيظ الشمري:
الشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح يظل ابن القرية النائية في تفاصيلها اليومية الرتيبة.. إلا أنه ومع الانغماس في لواعج حياة المدن يوقضها من سباتها، لعلها تنتشله من ما هو فيه من عناء.. لتظل (يفرس) القرية الصغيرة نداً عنيداً للعاصمة (صنعاء) وإن استحوذت الأخيرة على اهتمامه شاعراً وباحثاً وأستاذاً ومن ثم مديراً لجامعتها العريقة.
الشعر وصنعاء ويفرس ثالوث مهم في حياة الدكتور عبدالعزيز المقالح حيث ظل الشعر هو الوطن البديل على مدى عقود، فحينما هجر الوطن اليمن للدراسة في مصر، ليحوز على شهادة الدكتوراه في جامعة عين شمس، فقد ظل الحنين يشده إلى مدن أيقظت مشاعره وعنفوان شعره. فجاء أول ديوان يحمل الشوق وعنوان: (لا بد من صنعاء) أوائل عام 1971م، حتى ديوانه قبل الأخير (كتاب القرية) حينما نراه وقد عكف على بناء علاقة قوية ومؤثرة مع تلك البراءات القديمة.. تلك التي يحن إليها الشاعر، فهو لا يكل ولا يمل من ترديد شوقه إلى المنابت الأولى، بل وحتى (صنعاء) العاصمة التي عني فيها كثيراً نراها قد تسللت إلى شعره كظاهرة ملفتة تستحق العناية لا سيما حينما ينأى عنها في غربة ما.
(يُفرس) القرية، و(صنعاء) المدينة العاصمة يعيده إليها الشجن العفي، والحنين الدافئ، فالقرية لن تشغله عن بلاد سكنت وجدانه، وعقله وهذا ما ينعكس على شعره، ومقولاته، وصور نقده للعديد من الكتابات والقصائد التي تفد إلى الذائقة فكان الشاعر المقالح معنياً دائماً بأمر المكان الذي يجسد المدينة الحلم.
المدينة في قصائد الشاعر عبدالعزيز المقالح تأتي استنطاقية للبعد الإنساني على نحو ما ورد في قصائد (حمى الدار) و(العودة) و(المنابت) وقصائد أخرى عني فيها الشاعر وصاغ منها معادلة لحب الأرض الأولى، والحلم الذي ما زال طفلاً صغيراً لم يكبر رغم تقادم الزمان، وما اعترى الناس من تحول، وتبدل فالشاعر المقالح أقام معادلة الأرض.. ذلك السحر الخفي لحب يسكن الوجدان، فقد جاءت القرية (يفرس) محطة أولى، تلتها رحلته في حب (صنعاء) المدينة التي سكنت الوجدان، فلم يمض الشاعر إلى أي غربة قصيرة أو طويلة إلا ويضع في عنقها قلائد الشعر الفريد، إيماناً بأن الشعر هو الحالة المؤثرة في الوجدان العربي منذ الأزل حيث يناجي صنعاء:
(إني إلى صنعاء يحملني
وجه النهار وترحل الأصل
لم يبق في الأيام من سعة
حان الرحيل ونوَّر الأجل
أأموت يا صنعاء مغترباً
لا الدمع يدنيني ولا القبل)
فالشعر في وصف صنعاء يطول، وقد يتشعب، إلا أنه يكون حزيناً وراعفاً حينما يكون من وحي قصائد (كتاب القرية) التي يستمد الشاعر من ذكرياته فيها الكثير من الألق الإنساني البريء.. ذلك الوجد اللاعج في أعماقه.. فالقرية بطبيعتها بريئة، وبطابع أهل الريف المحافظ هي الملاذ الأخير لرحلة الدكتور المقالح بعد عناء طويل، ومجالدة قوية مع الحياة التي لا ترحم في ظل حياة المادة التي عبثت في كل شيء.
فليس بوسع الشاعر عبدالعزيز المقالح إلا أن يفيض شعراً في حب تلك الأنحاء أو التخوم التي نبت فيها، وتكاثرت أحلامه في فضائها، وحتى تحولت إلى مجرد أوهام وأحزان في دروب البحث عن الذات بين المدن والقرى وعواصم العرب والغرب الأخرى، لتظل المدينة هاجساً مفعماً بالحزن واللوعة وليس أدل من ذلك من ربط الشاعر المقالح بين المنافي والحزن والمدن.
في تجربة الشاعر عبدالعزيز المقالح لا تظهر المدينة أو القرية بوضوح لأن التجربة الشعرية لا تعتني كثيراً بالمكان على نحو ما يحدث في الرواية أو القصة، لنجد أن الصورة الوجدانية تجاه الأرض أو المكان أو المدينة على وجه الخصوص تكون في الشعر ذات مضمون عام، فالشاعر عادة ما يضمر الحب للأرض التي يهفو إليها لكنه لا يستظهره بشكل قوي، بمعنى أن يهتم في التفاصيل الدقيقة للمكان على نحو ما يفعله كتاب السرد قصة ورواية. فالمقالح حينما يحن إلى (يُفرس) أو (صنعاء) لا يكون في غياب كامل إنما بوعي مناسب يشرح فيه دلالات حبه وشوقه وولعه في المكان، إنما نلاحظ أن الشاعر المقالح لا يأسره الحنين إلى الوطن إلا إذا كان في غربة ما وهذا جزم بأن الشاعر يمتلك تجاه المكان الوعي الكامل.
أضف إلى هذا وذاك فإن الشاعر تحكمه عادة الأوزان والقوافي حيث تحد من تأملاته، وإفصاحاته، لنراه وقد اقتضب في رسم تفاصيل علاقته بالأرض التي ينتمي إليها.
الشاعر عبدالعزيز المقالح ينتمي إلى جيل مكافح خرج من الريف محملاً بشوق البراءات الأولى.. تلك التي ينسج منها الشاعر الكثير من تفاصيل قصائده الوجدانية عن الأرض التي غادرها على أمل العودة إليها متى ما شاءت الأقدار، فقد لا تتحقق الأمنية في العودة إلى المنابت الأولى إلا محمولاً على الأعناق.. مطفاءاً في أبدية الموت الذي يباغت الحالمين عادة قبل أن يحققوا بعض أحلامهم.