تأخرنا كثيراً في الاحتفاء به إلا من كلمات متناثرة (هنا أو هناك)، حتى الملف الذي نقدمه في هذا العدد كان حقه أن يتقدم عاماً على الأقل، فجدت أمور تحريرية سوفت صدوره حتى هذا العدد ليكون فاتحة ملفات العام الثقافي الجديد.
حظنا أنه من هنا، وسوء حظه أنه لم يكن من هناك، وإلا لأصبح رقماً إبداعياً معادلاً لقيم شعرية لديهم تبوأت القمم.
واجه الإغلاق بأفق مفتوح، ودفع ثمناً غير يسير، وبشر بالنصر بعد الصبر.
صبراً أخا الحرف لا تعجل ولا تلم
فلن أضيع أنا أقسمت بالقلم
وهذا مطلع قصيدته (التاريخية) عن (حرية الفكر) التي اضطرته إلى التواري في بيته سنوات دون أن يبتئس وينتكس، فهل كان يتنبأ قبل نصف قرن (1385هـ) بما آلت إليه الحال الثقافية بعد ما تحكم تيار واحد في المسار دون أن يكون الخلاف مرتبطاً بثوابت بل بأفهام وتفاسير ورغبة في الاستعلاء وحرص على الاستعداء:
الشمس تشرق من كفي أشعتها
إن تسجن الشمس عن أرضي وعن أكمي
يا غارة الدين باسم الدين كم رفعت
رايات زور وبهتان على أمم
عاشوا دعاوى فليس الدين غايتهم
بل التكالب في الدنيا على الرمم
هم ذكرونا بعهد كان من زمن
فيه محاكم للتفتيش لم تدم
النص طويل لكنه يختصر حكاية ثقافية سبقت (حكاية الحداثة)، وربما كانت أحد إرهاصاتها التي لا تنفصل عنها.
تواصل الشاعر العيسى ليرسم لوحات العشق للأرض والأنثى غير آبهٍ بالأصوات المعترضة، وأعطاه اغترابه عن الوطن دفقاً عاطفياً جميلا لا تثنيه الرقابة أو القيود، ولم يكن غيابه سوى حضورٍ هادئ أبعده عن ذاكرة الإعلام ليبقى في طليعة الأعلام.
وجد العيسى سلواه في البحر والنهر، والسهل والصخر، والطفل والمرأة، ووجدنا عزاءنا في صورة شاعر أحب للحب، وأضاء في الدرب، وظل شاعر الخصب في زمن الجدب.
الإنصاف يأتي متأخراً.
ديوان أين قفاة الأثر (1428هـ) ص41-45