يُحسن الإخوة في (الثقافية) عليّ وعلى المشهد حين يعيدون إليه علماً من أعلام البلاد وقد لا يعرفه تمام المعرفة إلا ذوو الشأن، وقد يكون العلم عزوفاً عن الأضواء زاهداً بما يتهالك عليه الخليون، وغياب الأدباء من شعراء وسرديين ونقاد ظاهرة لا ندري ما أسبابها، وبخاصة حين تتبادل الفنون المواقع، فيكون الزمن زمن الرواية ثم تتهافت الأقلام على نكرات لا تلوي على شيء.
والحديث عن أعلام الشعر في بلادي حديث يعيدني إلى مراتع شبابي، ولاسيما أنني انصرفت عنها وشغلت بمشاهد الفكر والسياسة، وهي البضاعة الرائجة والرابحة.
واستدعاء شاعر بوزن محمد بن فهد العيسى يغري أمثالي بالمشاركة والمباركة؛ فهو أحد الشعراء الذين صحبتهم دارساً ومدرساً ومشرفاً ومناقشاً للرسائل، وكان آخر ذلك رسالة أكاديمية أعدها تلميذي (جبر الفحام) عن شاعرنا الكبير، والعيسى كما عهدته منذ أن عرفته في كتاب (شعراء نجد المعاصرون) لا يحلو له إلا مواجهة التيار والتغريد خارج السرب لقد تمرد على العمودية، وسبق مرحلته حين وصل حباله بشعراء التجديد المتطرف، حتى كاد شعره يصاب بالكساد، وحتى أصبح واحداً من البلابل التي لا تجد دوحاً تغرد عليه.
وإن لم تكن الدوح حلالاً للطير من كل جنس، لقد جاء والكلمة للتراث فلم يتفسح له أحد في المجالس، وحين أصبح الزمن زمن الحداثة كان لـ(الأخطل) الذي أدركه (جرير) وله ناب واحد، ومن ثم لم يكن حفياً بمن سلف ولم يكن حفياً به من خلف.
العيسى شاعر مذ عاش لذاته وباح بهمومه، ولم يكن شاعر مناسبة، وقدره أنه جاء والسلطان لهذا اللون من الشعر وحين لم يكن كما يريد سلطان الشعر تضاعفت معاناته وأمعن في انقطاعه، ولأن الذائقة لم تألف هذا اللون من الشعر في مبناه وفي معناه كاد يكون بين شعراء المرحلة غريب الوجه واليد واللسان، وحين تفتقت الأذهان وتفتحت الأبواب وأصبحت المشاهد ملاعب جنّة كان العيسى قد طوى كشحه وعلم أشياءه، وذلك قدر الكبار يأتون في الوقت الضائع، ثم لا يكونون كما يريدون فيرتدون إلى دواخلهم، يبكون حظهم العاثر وغربتهم المستحكمة.
وكل مبدع في قومه تقيد انطلاقته سلطات ثلاث: سلطة الدين والسياسة والمجتمع، وحين تكون للشاعر رؤية مستقلة تأخذه الرغبة في التفلت، وقد يبلغ به التمرد حد التشظي، وما أكثر المبدعين والمفكرين الذين أوهنتهم المقاومة وأجهدهم العناد، ونبض الشعر عنده يوحي بأنه ما زال عند رأيه، درسه (ابن إدريس) قبل أن يخرج للناس ديوانه، وفي أيدي المهتمين أربعة دواوين وما قاله ابن ادريس عنه في البدايات يصلح أن يكون له على مشارف الشيخوخة، بدأ شاعراً عمودياً، وحين تفلت على الشكل لم يبعد النجعة بل ظل حفياً بالإيقاع، وكل شاعر موهوب لا يمكن أن يجهض جوهر الشعر وهو الموسيقى (فالقصيدة النثرية) التي استهوت البعض عمدوا إليها بعامل الضعف في الملكة أو الرغبة في التقليد وهو إذ خرج على البحر الخليلي فإنه ظل مع التفعيلة، وهذا اللون (النازكي) من التجديد احتفظ بجوهر الشعر وحفظ مكانة الشعراء قلت إنه شاعر ذاتي، وذاتيته تجمع بين نزعات متحفظ عليها النزعة المعرية.
والنزعة الوجودية والذين درسوه مروا بهذه النزعات مرور الكرام، ولم يعوها وشاعر مثله يحتاج إلى مناهج وآليات ومجسات ومسابير تكشف عن دخائله ورؤيته للكون والحياة، ومثل هذا الفعل يتطلب جهداً ووقتاً واقتداراً قد لا يتوفر لكل دارس، ولهذا سيظل الشاعر مشروع دراسة قادمة تتلبث في عوالمه الغامضة لكي تقر في المشهد ما تتحقق به شاعريته بكل أبعادها وبواعثها وروافدها، ولو أن الشاعر كتب سيرته الشعرية كما فعل مجاملة (غازي القصيبي) لأعطى الدارسين أكثر من مفتاح، ولكنه ظل منطوياً على نفسه متأسياً بالمتنبي الذي يقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصموا
وأحسب الناس بعد لم يسهروا ولم يختصموا بل قبلوا تلك الإطلاقات واللمحات، وانصرفوا إلى غيره.
وحين نقول: بأن العيسى شاعر قلق ورفض، نجد أن شعراء آخرين يحملون تلك السمة ولكنهم يختلفون في البواعث فليس كل قلق يحال إلى باعث نفسي، فالمعري قلق، وابن الرومي من قبله قلق، ومن الشعراء المعاصرين (محمد حسن فقي) شاعر قلق، وقد يبلغ القلق بالشاعر حد التجني على نفسه وعلى مسلمات الأمة، وقد لا يبلغ به هذا الحد، وقلق العيسى لم يبلغ به حد التمرد على الثوابت ولكنه يظل قلقاً عنيف القلق رافضاً عنيف الرفض وأياً ما كان الاتفاق أو الاختلاف فإن ظواهر الشعر العربي تظل دولة بين النقاد، وأحكامهم مرتبطة بخلفياتهم الثقافية ومواقفهم الدينية والسياسية.
ويقيني أن العيسى لم يكن مريحاً ولا مستريحاً، وسيظل في قلقه ورفضه، ولو كان متصالحاً لأمد المشهد بالشعر والنثر.
وحين نلتمس البواعث نجدها في مثاليته وفي رفضه للواقع العربي، وأي مثالية تنتاب الشاعر تجعل منه شعلة ملتهبة تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله، وما أكثر المثاليين الذين ترمدوا وصاروا رماداً بعد سطوع.
الجميل في الشاعر أنه لا يتصنع المثالية ولا يفتعل القلق والرفض إنها سجية واكبته منذ النماذج التي اختارها له (ابن إدريس) حتى آخر قصيدة أفضى بها إلى الناس.
الشيء اللافت للنظر هو تساؤل طرحته حين درست ظاهرتي (التشاؤم والألم) عند (الفقي) كيف نوائم بين حياة سوية عاشها الشاعر، وحياة شعرية مضطربة سجلها في شعره وهنا ندخل في دوامة الصدق الفني والصدق الواقعي، فأي الطرفين أحق، ومن ثم أكاد أشك في جدوى المنهج النفسي الذي اعتمده (العقاد) في دراسته لطائفة من الشعراء وبخاصة دراسته لابن الرومي في كتابه المشهور (ابن الرومي حياته من شعره) ولقد حاولت أن أطبق هذا المنهج في بعض دراساتي ولكنني اكتشفت أن هذا الصنف من الشعراء يعيش حيوات مختلفة بل أكاد أجزم بأنها متناقضة.
فالذي يقرأ شعر (العيسى) و(الفقي) على وجه الخصوص، ثم تتاح له الفرصة ويعيش معهم أو يسبر أحوالهم في منازلهم أو في أسواقهم أو في مكاتبهم يجد أن هناك فرقاً واضحاً فالعيسى عاش حياة إدارية ناجحة وتقلب في عدة مناصب وكان مثال المسؤول الناجح، وشعره يوحي بأنه لا يستطيع أن يتصالح مع نفسه، فأي الحياتين أحق بالاعتماد والتصديق، إنها إشكالية وبخاصة عند النقاد الذين يتصورون أنه بالإمكان اكتشاف الحياة من الشعر.
وهذا (عمر بن أبي ربيعة) الشاعر الغزل الذي أزعج الوسط الاجتماعي، أقسم حين حضرته الوفاة أنه لم يحل إزاره على حرام، وأكاد أقطع بأن عدداً من شعراء الغزل المكشوف لم يكونوا كما يقولون، وصدق الله }وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ{.
سيظل العيسى -كما قلت- إشكالية حتى يفرغ له النقاد الصابرون المحتسبون ويفككوا شعره بآليات النقد الحديث، وعندها يقال فيه فصل الخطاب. تحية إكبار وتقدير لشاعرنا الكبير.