كانت لي منذ سنوات مضت وقفات سريعة مع شاعرية الشاعر محمد فهد العيسى في أثناء إعداد رسالة الدكتوراة، ثم سعدت باختيار الباحث جبر الفحام شاعرية محمد العيسى لتكون موضوعاً لأطروحته التي نالها من جامعة الإمام في عام 1427هـ، ثم كانت سعادتي الثالثة حين علمت بعزم المجلة الثقافية بجريدة الجزيرة إصدار ملف عنه، وهي السبّاقة إلى تكريم الأعلام من مختلف مناطق المملكة، وفي مختلف النشاطات، لكون الشاعر العيسى علامة فارقة، ورائداً متميزاً في الاتجاه الرومانسي في الشعر السعودي الحديث، ومبدعاً لم يصرفه عن العطاء كثرة انشغاله بالوظائف الإدارية والدبلوماسية التي تقلدها منذ وقت مبكر، فأنتج أكثر من عشر مجموعات شعرية مطبوعة، كان آخرها ديوانان أشارت المجلة الثقافية إلى صدورهما قبل فترة قصيرة، هما (عاشق من أرض عبقر)، و (أين قفاة الأثر).
وكان قد أبحر في دراسة شعره عدد من الباحثين ودارسي الأدب السعودي (من الدارسين المحليين والعرب)، من أمثال الدكاترة الحامد، والهويمل، وابن إدريس، وبكري أمين، ومحمود رداوي، والعطوي، والخطراوي، وغيرهم، فوجدوا فيه محطة متميزة لا يمكن تجاوزها، وفي كل زاوية منها إضافات وملامح جديدة، ولا تزال تستوعب الدارسين من كل الاتجاهات الفنية.
فهو شاعر بدأت شاعريته بروح شعرية مختلفة عما هو سائد في فترة نشأته، ولم يكن صورة للشعر السائد، ولم يكن مجرد مقلد أو محافظ أو متبع، بل أراد أن ينهض ويوجه الشعر في المملكة نحو مسارات جديدة، تقوده شخصية شعرية متميزة، تطرح مشروعها في التجديد إبداعاً وأمثلة حية وناضجة سابقة لعصرها، ثم ازدادت مع الزمن نضجاً ورسوخاً، دون انشغال بالتنظير والتقنين.
وقد أمكن لي أن أرصد بعض ملامح شاعريته، وألتقط بعض الملامح الموضوعية والتعبيرية منها:
موضوعات شعره:
أ - الهموم الذاتية:
من النقاد من يرى أن الشاعر محمد العيسى لا يكاد يتحدث في شعره إلا عن تجاربه الذاتية (عمر الطيب الساسي، الموجز في تاريخ الأدب العربي السعودي ص 234) وهو رأي له جانب من الصحة، (فالتجربة الذاتية سمة عامة في أغلب شعر المجددين، سواء طبعت بالألم الاجتماعي أو النفسي، والهروب إلى الطبيعة، أو الحنين إلى الماضي، كما في هروب القرشي إلى الطبيعة... والتمزق النفسي في شعر الحسيني ومحمد العيسى... والمجددون أكثر الشعراء تعرضاً للآلام لطموحهم الاجتماعي والفكري، الذي يجعلهم يحاولون الإصلاح والمثالية، فيصطدمون بجدران الواقع أحياناً...) (عبدالله الحامد، الشعر الحديث في المملكة ص 196).
ودارت هذه الهموم الذاتية حول: الحب والمرأة - تصوير الآلام النفسية والشكوى - الغربة - التأمل في الطبيعة.
فالحب والغزل والمرأة: باب من أكبر الأبواب في شعره، وللشاعر العيسى بصمة متميزة فيه، فغزله غزل إنساني شامل، وليس غزلاً شخصياً، لا معنى له ولا قيمة إلا بين طرفيه، والذي يصفه بعض النقاد بأنه يمكن أن تطبع منه نسختان، واحدة للعاشق، والأخرى للمعشوقة، لأنه لا يهم غيرهما (رجاء النقاش، مقدمة ديوان: الإبحار في ليل الشجن للعيسى ص 34).
والشاعر في شعر الحب، أو كما سماه أحد الدارسين (نشيد الحب): (كئيب، معذب، نواح، والشعر هنا شعر الذكريات والآهات، شعر الشجون والدموع، شعر النواح، في هذا النشيد يغني العاشق قصة حبه الخافق قرطيها، يغني لقاها بعد الفاشل، يغني هيامه بـ(نعم) يغني شعرها، ثغرها، طول هجران، قربها بعد طول ابتعاد، وروحه سابحة في عطر ذكراها، وأريج شذاها، يرسل الآه، والدمعة تلو الدمعة، واللحن تلو اللحن، في معبد حبها وهواها، فيهتز الوجود لأنغامه طرباً.. ويهيم الشاعر يبكي هجر حبيبته وبعد يهيم من جبل إلى جبل، ومن تلة إلى تله، من سهل إلى سهل، ومن واد إلى واد، فمن (وج) إلى (شهار)، ومن (الردف) إلى (حوايا)، هنا قابلها، وهناك قبلها، وهنا آنسها، وهناك غناها...) (جريدة اليمامة، عدد 115 في 25-4-1386هـ، نظرة على مشارف الطريق، بقلم- م وليد فستق).
وتجاربه في عالم الحب كثيراً ما تخلف وراءها ما يمكن أن نعده مصدراً آخر م مصادر الألم الذي يشيع في شعره، وغلف روحه فيملؤها نشيجاً يقطع النياط، ويدمي القلوب (محمد الخطراوي، شعراء من أرض عبقر 1-235).
ومن سمات غزله: السمو إلى دنيا المثل والعفة، فلا يقع القارئ لشعره (على ألفاظ أو صور للأحاسيس المادية، وإن صور المرأة الحبيبة فإنه ينأى بها عن الأوصاف الجسدية، وحتى لو كانت (عيناها) محوري التجربة، فإن شاعريته تدور حول دفقات الإحساس، وخلجات القلب من خلال تجاوب النظرات، فيجئ تعبيره عن الموقف على شكل صور نفسية متتالية إثر بعض، وكل صورة مشحونة بفيض من الدلالات والمعاني والإيحاءات، حتى تصل إلى حالة تندمج فيها معالم الطبيعة بمأساة الإنسان المعاصر بأعماق التجربة الذاتية..) (محمود رداوي، الحب والغزل في الشعر السعودي ص 103)، وقصائد الحب والغزل من الكثرة، بحيث أنه من العبث ذكر عناوينها أو أرقام صفحاتها، فلم يخل منها ديوان من دواوينه المطبوعة.
وأدى هذا الحب إلى محور جديد من محاور شعره الذاتي، وهو: تصوير الآلام والشقاء، والشكوى المستمرة، فهو ليس حباً مخملياً يزجي فيه الشاعر وقت فراغه، وإنما الحب في نظره (عذاب وشقاء وصعاب وعثار وسهر وصدّ وجفاء وسقام، و (لهذا يغني) الشعر، وإن تلك المشاعر والإفاضة والبوح تنفي عن الشاعر ما كان قد نوه به مقدم الديوان (ديوان الإبحار في ليل الشجن) الناقد - رجاء النقاش، بأن لا تنعكس حياة الشاعر الدبلوماسية على لغته الشعرية، وتجربته الوجدانية... وإن قصيدته (فنار) لأكبر دليل على اعترافات الشاعر الغرامية، ودعوة الحبيبة إلى عالم حبه، كي يفيض لها عن صدق مشاعره، وعظمة هواه، وجمال شعره وكلامه، ولينتشلها نم ضياعها وغربتها...).
وهو لا يبارى في الصدق والقوة والعمق (إذا تحدث عن القيود والسجن والأغلال، التي يشرع بها شعوراً قوياً، تحد من انطلاقه وتوثق رجليه إلى الأرض، ويداه مغلولتان إلى صدره، وأحسبه أقدر شاعر في البلاد تحدث عن آلام الحياة وتبرم بها، ولم يكن قلق الفكر كالفقي والفلالي، وليس ثمة دليل على أن العيسى أعمق ألماً من الفقي أو الزمخشري، إلا أن العيسى بديوان واحد حقق كل هذه الصفات، بيد أن الفقي والزمخشري يطيلان ويكثران، فتضعف حرارة التجربة، ومن قصائد العيسى: (غريب - تمرد - بين الصخور) (عبدالله الحامد، الشعر الحديث في المملكة ص 465).
ووسط هذه الآلام، وفي لجة المعاناة، يبحث الشاعر عن المخرج والحل، لما يخفف من آلامه، فيقع في الغربة، والنزوح، وهي الغربة التي أحس بها وهو وسط أهله وأفراد مجتمعه، حتى لقب نفسه بـ (الفهد التائه)، بسبب نفسه (تلك النفس التي تمتلئ بالتطلع والطموح، وتؤمن بحرية الفنان، وترفض كل قيد أو وصاية عليه، حتى يمكن له أن يبتكر ويبدع، وأن يؤدي وظيفته الأساسية في الحياة، ولكنه وجد المجتمع من حوله لا يكاد يدرك من مشاعره شيئاً، كما ألفاه يخلط بين وظيفة الشاعر والواعظ) (محمد الخطراوي، شعراء من أرض عبقر 1-231).
ثم يلجأ إلى الطبيعة، ليبحث فيها عن تسلية نفسه، وتخفيف آلامه، فمن اليسير العثور على قصائد تتناول موضوعات من الطبيعة من مثل: البحر، والأماكن، والنباتات، فهو من أكثر الشعراء العرب ذكراً لأماكن محددة في شعره، فهو بوفائه العهود للمكان، نجده يملأ هوامش دواوينه بالتعريف بالأماكن التي ترد في قصائده (راشد عيسى، ومحمد المشايخ، أسراب الحنين ص 54)، وكان الشاعر العيسى وفياً للأماكن في القصيم ونجد خصوصاً، وفي المملكة عموماً، من مثل:المسهرية، الغزيلية، طمية، بئر هداج (ديوان دروب الضياع)، والحائر، وروضة التنهات (الإبحار في ليل الشجن) وروضة الخفس، وادي الباطن، وادي مسرة، المثناة، وج، شهار، الردف (على مشارف الطريق).
ب - الهموم العامة:
فلم ينقطع الشاعر - كما بدا للبعض - عن محيطه الاجتماعي الأسري، أو الاجتماعي المحلي، أو عن محيطه الوطني، فواقع الحياة الاجتماعية (أخذ يلفحه، فتطفح مشاعره بفيض من الحيرة والضياع، فهو يمتد به العمر في زمن تمور بالعالم العربي والإسلامي قضايا مدلهمة من حروب ودمار وخنوع وخضوع، واحتلال وفقر، ونكبات وتخلف، وضعف، وهو في هذه لا يهتدي إلى دروب النجاة... وأنت تراه يلوب في الغسق الشعوري الذي يمتد إليه من الخارج، فشأنه شأن الذاتيين يتأثر فيترف داخلياً، ولا يصارع خارجياً، والشاعر من أولئك الذين يكتفون بالدعوة والأماني وأحلام اليقظة...) (مسعد العطوي، الشعر الوجداني في المملكة ص513)، فله مجموعة من القصائد التي (تتغنى بأطفال الحجارة، وبطولات الفتية الفلسطينيين في مشوار مقاومتهم للاحتلال الصهيوني، كما كتب الشاعر قصائد مختلفة حول الجرح البيروتي، وحول بعض المآسي العربية الأخرى، ويأتي هذا التعاطف الإنساني تجاه قضايا الأمة وهمومها من صحو الفكر المشمس الذي تتزيا به قصائد شاعرنا، ومن الأساس المشاعري الأول الذي تحمله الجزيرة العربية تجاه قضية فلسطين بخاصة، وقضايا الوطن العربي الإسلامي عامة...) (راشد عيسى ومحمد المشايخ، أسراب الحنين ص29).
وفي ديوان (حداء البنادق) الذي خصص ريعه لأطفال فلسطين العديد من القصائد التي يعبر بها عن هموم الأمة (المجلة العربية، شال 1419هـ، ص 38، مقال - غازي القصيبي).
من سمات شاعريته:
1 - توظيف الموروث الشعبي والتراثي، والأساطير،: فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من مظهر حميم من مظاهر الأحوال والمعاش في الجزيرة العربية بعامة، وهي الأماكن التي عاش فيها شاعرنا بخاصة، ومن هذه الجمل والعبارات والمفردات: يا ربيع الوسم، الخلاوي، الحدري، غييمة، ألحان السامري، المزن الوسمية، هنوف، ومن الأدب العربي الممتد من العصر الجاهلي، مروراً بالأموي، فالأندلسي استدعى الشاعر أسماء الشعراء وأعلامهم، كما وظف التراب بأبعاده الإنسانية، وخاصة الجانب الأسطوري، من مثل (فيزوف - الإبحار 64 و 251)، و (ثاليا- دروب الضياع 63).
2 - توظيف الرمز: وخاصة الرمز الذاتي الذي يرمز به الشاعر إلى ذاته، فهو يلج إلى هذا الرمز (بنفس قلقلة حيرى، لا راحة فيها ولا استقرار، في قصيدة بعنوان (في الطريق)، وهو يرمز بمحبوبه لعوامل الاستقرار التي تعتلج في ذاته، والقصيدة بعيدة كل البعد عن الوجدان الحقيقي...) (مسعد العطوي، الرمز في الشعر السعودي ص 203)، كما يرمز إلى ذاته في قصيدة (الشاطئ الحزين)، التي تحكي قصة صياد يبحر في قاربه للبحث عن لقمة عيشه، فالصياد فيها هو الشاعر (محمد العيسى، الإبحار في ليل الشجن: مقدمة الديوان بقلم - رجاء النقاش).
3 - غلبة النزعة الرومانسية في شعره: والرومانسية تنظر إلى ذات الشاعر بوصفها المحور الأساسي للتجربة الشعرية، وأن للشاعر الحق المطلق في أن يرفض ما يشاء، وأن يبل ما يشاء، وألا يخضع لقوانين أخلاقية واجتماعية وفنية، تأتي من الخارج، فكان سيد نفسه، وجاء شعره غنائياً، ملتهب العاطفة غزيرها، فتمسك بجذورها، وتطور معها، حتى تجاوز الجانب الذاتي في شعره، ليجمع من جهة بين الأصالة وما تحققه من صدق ذاتي وفني، وبين إبداع الصور الشعرية التي تعبر عن نواح إنسانية، تؤكد تجاوبه مع عصره ومثله وأبناء جيله بقصائد فيه من التجسيد الذي يدب الحياة في غير الأحياء، ليسقط عليها مشاعره وأحاسيسه (راشد عيسى ومحمد المشايخ، أسراب الحنين ص 60 وما بعدها).
4 - تمكن الشاعر محمد العيسى من الشكلين القديم العمودي، والحديث التفعيلي: (فاستطاع أن يجمع بين فئتي هواة القديم فيطربهم بقصائده الخليلية، وفئة هواة التجديد فيطربهم بقصائده التفعيلية، فهو شاعر مقبول ومقروء عند متذوقي الشعر من الفئتين، وكان قد دخل عالم التجديد في وقت مبكر، ولا يزال على الرغم من تجاوزه الخامسة والسبعين من العمر، لاقتناعه التام بموهبته، وتمكنه من الشكلين.