(جميعنا مدعوون أن نستشرف الحياة،.. والحياة عندي هي أن الوعي الذي طالما شعرنا أنه أفلت من أيدينا، يطرق الباب).
رُحّلت سولجنستين، يوما، إلى الولايات المتحدة ثم قفلت عائدا لتقيم على مشارف موسكو، داعيا إلى بناء مفهوم جديد لإدارة العالم بعيدا عن البربرية، عالماً بعيدا عن الصناعة المنهجية للألم.
وحدثتنا يا صاحب (أرخبيل الغولاغ) عن قوة الأدب وعن بلادك وعن الأزمة التي تواجهها البشرية وأنت في الثامنة والثمانين وقتها.
كان هذا في نظرك ليس عمراً لليأس أو الانتظار، بقدر ما هو عمر للتأمل، وأفصحت عن أنك عندما كنت في فيرمونت، المدينة الأميركية التي أحببتها كثيراً. التقيت ببعض الذين قالوا لك أنهم يحبون الأرصفة،.. لأنهم يجدون هناك أقداما بشرية.. بشر من كل النّحل.. لا أحد يتطلّع إلى الآخر، بيد أن كل منهم بحاجة ماسة إلى الآخر،.. لطالما لعبت أنت دور الآخر هذا لكي تشعر بالامتلاء،.. وفي تقديرك أن تلك ثقافة تجعلنا نشعر بأننا نجرد حقائب فارغة، وتطرح السؤال المعضلة: لماذا يتم تفريغ تلك الحقائب البشرية من محتواها؟.
أيها الراحل...
أنت تفضل ألا نبقى على ضفاف الماضي الذي يفترض أن يمثل ضفافا للنسيان، مع ذلك فأنت تستغرب كيف أن الأجيال الجديدة اتصلت هكذا عشوائياً عن ثقافة الآباء،.. إن الأبناء الذين توفرت لديهم وسائل خارقة للاتصال والتواصل، يمكن أن يعتقدوا أن تولستوي هو اسم لنوع معين من السجائر. وإذا أصغى أحدهم إلى سيمفونية ( شهرزاد لكورسكاف) فلن تكون لديه أي مُختزن فكري عن ألف ليلة وليلة، ولا عن ذلك الشرق الذي تشبه أمسياته ليالي الجمر.
ذات حقيقة، قررت أن الأمية الثقافية تصدمك، ولا سيما أنت الذي وصفت نفسك بأنك كنت تلتهم الكتب كما تلتهم الدببة طعامها عندما كنت صغيرا، تلاحق عيونك كل الكلمات، لم تك تمتلئ قط، وحتى قبل رحيلك، كنت تشعر حين لا تقرأ بأنك كغرفة باردة وخاوية،.. أو أشبه تماما برجل الصقيع.
أيها القلق...
بلادك تشعر دائما أنها بحاجة إليك،.. أنت الذي يقال إن لحيتك مستوحاة من الخرافات الروسية القديمة،.. ولم يجانب الصواب جان بول سارتر حين قال إنك الثلج الذي يتعذب. حتى عندما ذهبت إلى أمريكا، كانت الروسية تبدو وكأنها تحميك من السقوط النهائي في المسافة،.. وفي الزمن الآخر،.. وفي الثقافة الأخرى.
وشد ما بكيت عندما قرأت (الأم) لغوركي، ذلك الذي يعتبر أن الأرض هي أمه الكبرى، الأمر الذي جعلك تتقاطع مع مقولة أننا أصبحنا نعيش في قرية كونية،..إذ تعتبر إننا على النقيض من ذلك ونحيا في متاهة كونية.
وكنت حصيفا عندما تساءلت عن أي ثقافة تلك التي تحملها الذئاب على ظهورها؟.. فقد كنت ترى أن ثورة الاتصالات لم تأت بأي دفع أخلاقي، بل على النقيض كررت ميكانيكية الصراع، وزادت من وحشيته ثقافات تأكل أخرى، وهذا ما يتعين مقاومته، فلا أحد يعني بهذا الشاشات تعرض لمعدلات نمو،.. كم أنتجنا من السيارات والأوهام كل عام. وكان يؤرقك أن لا إحصاءات ترصد معدلات النمو الإنساني في الإنسان، بل النقيض هو ما يحدث،.. حين نحاول أن نحدق في المرايا تلك الملامح البشرية التي تتقهقر فينا،.. ولا شيء غير الزجاج ينفذ إلى دواخلنا ويترعرع كما أي حيوان غريب داخل الغابة.
أيها المُغيّب فناءا...
في البدء كنت شاعراً،.. وكنت صديقاً للأشجار وللهواء وللطيور وللفلاحين الذين لا تعنيهم لعبة الزمن. لم تتغير في داخلك لحظة،.. حتى عندما كانت العيون الخشبية تلاحقك، يداهمك شعور دائم بأنك ولدت هكذا لتصبح صديقاً للكلمة،.. أو لكليهما. ووفق هذا المنظور، كنت تدعو إلى إقصاء النص الديني عن أصحاب الرؤوس المجنونة،.. فالعالم لديك، يحتاج إلى دقات قلب لا إلى قرع الطبول.
عشت ورحلت سولجنستين،.. ضميرا مع روسيا القوية، لأنها بعد كل تلك التجارب المعقدة التي يتداخل فيها التراجيدي مع المحمي، أصبحت عقلاً، أجل أصبحت روسيا عقلاً، وذاك تحديدا ما يتسنم أولويات ما تفتقر إليه البشرية التي تتعرض لانتهاك ما هو ثقافي وأخلاقي.
وهو ذات المنعطف الذي جعلك تستفسر عن السبب الذي يجعل الأميركيين يحاصرون بلادك من الجهات الأربع،.. وقد عذبتكم الحروب كثيراً، الملتهبة منها والباردة،.. كان الأميركيون يقولون بروسيا الحرة، وهاهي قد أصبحت حرة حقيقة،..ً تُرى هل يريدونكم أن تستبدلوا كارل ماركس بجورج بوش؟!،.. ومن صميم حقك أن تعتقد أنه لا بد من بلورة مفهوم ثقافي لإدارة العالم،.. طالما أن البشرية ترزح تحت التيه والانهيار،.. فضلا عن الاستلاب النفسي والتاريخي.
أيها المحتج في الزمن العولمي...
يوما، سئلت على صفحات (التايمز) عما إذا كان للأدب أن يضطلع بدور فاعل في مأزق العالم؟.. ويبدو أنك متيقنا حين أفصحت عن ضرورة أن يكون الأدب صدامياً،.. فالكاتب لا يعبث بالوردة،.. بل يسعى أن يضع قدمين للزلزال،..الأدب قوة ويقاوم،.. وكنت لا تتحدث من موقعك ككاتب روسي بل حامل قلم ينتمي إلى هذا الزمن.