شهدت رحلتي مع الإعلام لأكثر من أربعين عاماً العديد من المشاهد والذكريات والتجارب العلمية والعملية.. واليوم وبعد مرور ما يقارب سبع سنوات على تقاعدي من وزارة الثقافة والإعلام اعترف أنني قد نسيت معظم هذه التجارب وما كان يجري على ميادينها من الصور والذكريات الجميلة أو ما كان يَعبُر على صعيدها من الهموم ورياح (السموم) القوية.
ورغم تجاهلي المتعمد لمشاوير حقيقية هي اليوم عندي أشبه بالذكريات والأحلام القديمة إلا أن اطلاعي مؤخراً على كتاب علي آل عمر - مشوار الحياة وصدى الرحيل - قد كسر لدي هذا الجمود وأخرجني عن دائرة هذا الصمت والنسيان العميق لأذكر ولو بعضاً يسيراً من ذكريات الزمالة التي احتفظ بها مع هذا الفقيد الإعلامي الكبير والأديب اللامع في المنطقة.
ومع أني قد لا استطيع أن أضيف شيئاً جديداً أو مهما إلى سيرة هذا الرجل أكثر مما أعدَ وجُمع في هذا الكتاب القيم للأخ (عادل آل عمر عسيري) الذي صدر في (1429هـ 2009م) بمناسبة الذكرى الأولى لوفاته، والذي يعتبر لمسة وفاء كان يجب أن يسجلها له التاريخ، إلا إنني أود أن استلهم هنا بعض المواقف والذكريات التي ربطتني مع الزميل والإعلامي الكبير الذي فقدناه أبو عبد الرحمن: علي آل عمر عسيري وذلك بمناسبة الذكرى الثانية لوفاته رحمه الله.
لقد صحبت المرحوم من خلال عملي وكيلاً لشئون التلفزيون ومن خلال عملة مديراً لمحطة تلفزيون أبها وحيث تعايشنا مع العديد من الذكريات والتحولات الاجتماعية والقضايا الإعلامية المهمة التي مرت على عملنا بالتلفزيون السعودي خلال هذه الفترة، وكما يقال: المرء بإخوانه فإن ما كان قد تحقق للتلفزيون خلال العشرين عاماً التي قضيتها مديراً عاماً للقناة الثانية ثم وكيلاً لشئون التلفزيون كان قد تم بفضل الله ثم بتعاون الإخوة الزملاء مديري المحطات التلفزيونية في تلك الفترة، وفي مقدمتهم الأخ الأستاذ الأديب والإعلامي القدير (علي آل عمر عسيري) رحمة الله الذي لم يكن دورة كمسئول إداري فقط عن المحطة، بل أكثر من ذلك بكثير، خاصة في مجالات إثراء البرامج وتوطيد علاقات التلفزيون مع المسئولين والمثقفين والأدباء بالمنطقة كما كان له أثره الكبير والمميّز على أداء التلفزيون خاصة في مجال التغطية الإخبارية لإنجازات التنمية في المنطقة.
ونتيجة لوجود الرجل وحضوره القوي في العديد من الأنشطة والفعاليات الإعلامية والثقافية والاجتماعية كانت لي العديد من الزيارات للمنطقة لحضور بعض هذه الأنشطة والفعاليات: ومنها احتفالات جائزة أبها الثقافية التي كان يعمل مشرفاً عاماً عليها وما كان يقام هناك من الاحتفالات أو المهرجانات الصيفية.
ومن خلال زيارتي للمنطقة وحضوري لبعض ما يقام في مدينة أبها من الأنشطة الثقافية أو المناسبات تعرفت عن قرب على جوانب عديدة مما كان يقوم به المرحوم من الجهود الإعلامية ليس فقط انطلاقاً من مسؤولياته الرسمية وإنما كنت ألمس فيه حب العمل وصدق الوطنية مما رسخ لدي القناعة بأهمية وجوده واستمراره على رأس العمل ليس فقط لمصلحة التلفزيون، بل لمصلحة وزارة الثقافة والإعلام وللمنطقة بشكل عام، وجعلني احتفظ بطلبه للتقاعد المبكر لفترة طويلة محاولاً خلالها إقناعه في العدول عن الاستقالة.. إلا أنه نظراً لرغبته الملحة وإصراره رحمه الله على التقاعد المبكر كان قد تم له ذلك أثناء غيابي في إحدى المهمات الرسمية خارج المملكة.
وعلى مدى الفترة التي بقيت فيها وكيلاً لشئون التلفزيون كان قد كلّف برئاسة المركز الإعلامي بجامعة الملك خالد بأبها، وحرصاً منه على التواصل الإعلامي والثقافي مع أبناء المنطقة، فقد طلب مني القيام بإعداد وإلقاء محاضرة في المركز ووضع لها هو بنفسه عنوان (دور وسائل الإعلام في ترسيخ مفهوم التضامن الوطني ضد الإرهاب).
وقد استمر تواصلي مع المرحوم حتى بعد تقاعدي من وزارة الثقافة والإعلام، فقد شاركني رحمه الله في اختيار موقع الاستراحة في المزرعة التي أقيمها حالياً بجانب (كرس) أو (ضلع) (جبل عكوة) المشهور في تهامة بمنطقة جازان وبعد إقامة الاستراحة وزراعة الموقع أرسلت له هذه الأبيات التي استخدمت فيها بعض العبارات والمسميات كما هي باللهجة المحلية لأهل المنطقة، أقول فيها:
انظر(أمكرس) كيف صارا
قد مسحنا (أمشوك) عنه وامحجارا
وجعلنا فوقه الليل نهارا
وزرعنا تحته الأرض ثمارا
يا جبل عكوة نحن بجوارك
قد أقمنا مزرعة وبنينا دارا
خبر ألمشتر إذا سالت جرروك
ينثني بمسيل لا يخطي المسارا
إن للأرض جمالاً وابتهاجاً
أن حباها الله ريا واخضرارا
وقد رد علي رحمه الله بقصيدة شعرية مماثلة جاء فيها:
يا أبا عادل أحسنت الجوار
وحباك الله أهلا وديارا
في نجوع الخير ارض حسنها
يملأ النفس انشراحا واعتبارا
أول الأمر أتيناها ضحى
ومضينا لم نر فيها منارا
ثم جاءت رحلة أخرى وقد
أصبحت حقلاً وبيتا وثمارا
انظر (أمكرس) تراه كيف صارا
قد غدا اليوم عيونا واخضرارا
انه الرحمن يعطي شاكراً
ويمد الخير ليلا ونهارا
ولما كان قد سبقني إلى إنشاء مزرعة خاصة به في أسفل عقبة (جبل ضلع) فقد سألته يوماً عن حال المزرعة وعن منتوجاتها الزراعية، فشكا لي من بعض الطيور والدبابير الجبلية ما أن ترى تَفتُّح زهرة أو نضوج ثمرة إلا وقعت عليها وأعطبتها..
ثم قال: لا بأس.. فهذا موطنها ونحن الدخلاء عليها.
ولما جاءني خبر وفاته في الثاني عشر من جمادى الآخرة عام 1428هـ لم أكن لأصدق الخبر في حينه.. بل أصابني ما كان أبو الطيب المتنبي قد أشار إليه في قوله:
طوي الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
رحمك الله يا أبا عبد الرحمن رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، فقد كنت صادقاً مخلصاً وأميناً منصفاً للآخرين من نفسك وحتى للطبيعة من حولك.. ولا نقول إلا ما يقوله عبادة المؤمنين الصابرون. (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)
- الرياض