في بداية دراستي الجامعية كنت قد عودت نفسي على القراءة المكثفة وعدم الاكتفاء بما يعطي لنا من دروس أثناء المحاضرات. وكنت شديدة الضيق بمبدأ الانغلاق على ما يُم لى أو ما يطلب منا أحيًانا حفظه. وجاءت مادة النقد العربي القديم الذي درّسنا إياه في مرحلة البكالوريوس الأستاذ الدكتور محمد الهدلق. كان علمًا جديدًا تمامًا بالنسبة لنا، لم يسبق أن تعلمناه أو شيئًا منه أو شيئًا مشابهًا له في المراحل السابقة. أعجبتني المادة، وغذّت جانب الشغف المعرفي بكل جديد يفتق الذهن، ويدعو إلى التأمل والتفكير، ويفتح منافذ الحوار والجدل، ويشرع آفاقًا للآراء المختلفة. شغفت بالمادة التي أحسن أستاذنا عرضها فحببنا فيها. ورحت أقرأ وأجادل، وأستاذنا يشجع ويتحمل حماستي وشغفي بالمضي وراء تأويل النصوص ومحاورة بعض النقاد قدامى ومحدثين.
وكلما تذكرت تلك المرحلة أُكبر في أستاذي الدكتور محمد الهدلق علمه وسماحته وسعة صدره التي كانت تفسح للطلاب فرصة لإظهار قدراتهم وشخصياتهم، على الرغم من الوقت الضيق جدًا المخصص لمادة تدرس عبر الشبكة، مع ازدحام الاستوديوهات بمواد تُقلص ساعاتها الثلاث إلى ساعة يتيمة يصنع خلالها أستاذنا المربي عددًا من المستحيلات متزامنة مع بعضها: يشرح، ويغطي المنهج ، ويلخّص، ويُدرّب، ويحاور، وبعد الاختبارات يناقش الأجوبة، ويوضح الأخطاء. و هي مقدرة رائعة مازلت على الرغم من تدريسي في الجامعة سنوات طويلة لا أبرع فيما برع فيه أستاذي من إحكام وسيطرة على الوقت.
كما أذكر من مآثره أنني حينما أنهيت مرحلة البكالوريوس، والتحقت ببرنامج الدراسات العليا كان اهتمامي وتعلقي بالنقد واضحًا، وكان اختياري محسومًا؛ فقد قررت أن أتخصص في النقد. واخترت موضوعًا هو (نقد النثر في القرنين الرابع والخامس الهجريين) وقد تخوف كثير من الأساتذة حينها من أن لا أجد مادة كافية، على الرغم من تسليمهم بأهمية الموضوع. ولم أجد من يساندني حينها إلى الدكتور محمد الهدلق الذي راح يشجع الآخرين على قبول الموضوع لأهميته، وهذا من المواقف التي لا أنساها مطلقًا، وهو موقف يدل على بعد نظر وعمق معرفة، ولم يخب ظنه لا في الموضوع ولا في طالبته، فقد أنجزت الرسالة بامتياز، ثم كان في لجنة المناقشة عضوًا وكان مدققًا كعادته ولكن كان مربيًا وفخورًا! ثم بعد ذلك بسنوات رشح القسم كتاب (نقد النثر في القرنين الرابع والخامس الهجريين) لجائزة الملك فيصل العالمية وهو في الأصل رسالة ماجستير. وأقول هذا الكلام لأبين أن القسم بالعلماء الكبار الموجودين فيه من أمثال الدكتور محمد الهدلق كان مُقدّرًا له أن يحافظ على مكانة علمية رفيعة وعلى مستوى علمي رصين مقنن، وبمثله وبعدد كبير من أساتذتي الكبار الذين يُعدّون أعمدة القسم بفضلهم تم تخريج أجيال، وبفضلهم حافظ القسم على مسيرة علمية وتطور بحثي مميز استمر في أجيال متلاحقة.
أما الدرس البارع والطريف معًا الذي لا أنساه أبدًا للدكتور محمد الهدلق أنه وأنا أدرس معه مادة النقد العربي القديم في السنة الثانية من البكالوريوس تصادف أن كتبت في أحد الاختبارات هذه العبارة (كانت أم جندب زوجة امرئ القيس ذات معرفة بالشعر) وكانت الدرجة من 20 وحصلت على 18 فقط، وحينما وزع الدرجات، وأعلمني بخطأي قال لي: إنني أستحق العشرين لولا خطأ لغوي هو كلمة زوجة. وحيث إنني كنت مجادلة من الطراز الأول (المزعج أحيانًا) قلت: إن زوجة مستعملة وصحيحة، ظانة أنني قد جئت برأس كليب كما نقول في عاميتنا، فأجابني: نعم، لكن الأفصح والأفضل زوج بدلاً من زوجة، وقال: إنه لا يحق لنا أن نترك الأعلى لما هو أقل وأدنى في سياق الفصاحة والقوة!! خرست أمام حجةٍ لا تقاوم، وتعلمت أن الإتقان والدقة وتحاشي ما هو دون يجب أن يكون مطلبًا لكل باحث. هذا الدرس البارع تعلمته من أستاذي الدكتور محمد الهدلق من بين دروس كثيرة تتالت تعلمتها من أخلاقه وسلوكه وتعاملاته التي تجمعها كلها صفة النبل والتفرد.
وثمة مواقف أخرى للدكتور محمد الهدلق يعجز القلم عن إيفائها حقها، لكنها كلها تؤكد أنه نموذج فريد من الأساتذة المربين بعلمهم وتواضعهم واهتمامهم الذي لا ينقطع بأبنائهم الطلاب. وخير مثال ما فعله بصمت من أجل محاولة إعادتي إلى الجامعة بعد أن تركتها في العامين الماضين. وقد أثر ذلك في نفسي تأثيرًا جميلاً وعميقًا، وكان ذلك من أهم أسباب موافقتي للعودة مجددًا إلى الجامعة والانضمام إلى كوكبة الأساتذة الذي كان لهم كل التقدير والاعتزاز في نفسي والذين كتبوا معروضهم من أجل هذه العودة. ذلك الخطاب -الذي كان الدكتور محمد من ورائه متواريًا بأدبه وفضله الجم- علمني أن عقل الأستاذ المربي وقلبه الأبوي قادران على تفهم ما لا تقوله عزة الشباب وأنفته وحماسته!! شكرًا أستاذي وابق دائمًا معلمي!!