كنا في الثامن من مارس 1972 حيث خرجنا معاً أنا ومحمد الهدلق من المكتبة المركزية في جامعة ادنبرة - أسكتلندا، وكانت الساعة الثانية عشرة ظهراً حيث هو وقت الغداء والراحة لمدة ساعة حتى الواحدة، ولكن محمد الهدلق تلك المرة لم يكن في خطته غداء ولا قهوة، وقد علم بالأمس عن مكتبة تجارية تبيع الكتب المستعملة وذكرها لي فقررنا معاً أن نستغل ساعة الراحة هذه بزيارة لتلك المكتبة، وهناك وجد كل واحد منا بعض ضالته حيث تسللت أيدينا وسط رفوف الكتب القديمة ما بين مسرحيات شكسبير وروايات ديكنز وأعمال ديفيد هيوم، ولهذا الفيلسوف نكهة خاصة في مدينة ادنبرة فهو أسكتلندي، وتحمل إحدى بنايات الجامعة اسمه: برج هيوم، وبه وبغيره تكدست أيدينا كتباً ومعها حماس رفيع في نفوسنا، كيف لا، وهي كتب هامة جداً وبطبعات عريقة وتاريخية، وفي الوقت ذاته هي رخيصة، وستعمر مكتباتنا الخاصة بهذا الهام والرخيص، ولم أنس منظرنا ونحن عائدان من رحلة المعرفة تلك، ومحمد الهدلق يمسك بيده كتاباً من هذه الكتب وهو يسير على طرف الرصيف، ويفحص سعره الذي كان مجرد (بنسات) ولم يصل حتى لربع جنيه، ولم يفته أن يقول لي: انظر لهذا السعر ولهذا الكتاب، ولهذا ولذاك، ويعرض الكتب واحداً واحداً، ثم يقول: إن الواحد منها بسعر كوب من القهوة، وماذا لو أننا اشترينا قهوة بدلاً عن الكتاب، ولا ينسى محمد هنا أن يقارن بين مصير كوب القهوة بعد استهلاكه حيث سينتهي عبر مسارب الصرف الصحي بعد دقائق من شربه، مقارنة بالكتاب ومصيره عبر سراديب الدماغ حيث لا يذوب ولا يتسرب.
كنت اتماهى معه وأقول له: نعم، نعم، مدركاً أنني أنا وهو كنا نلاعب أنفسنا ونسليها عن ساعة راحة أهدرناها ولم نتغد ولم نحتس قهوتنا، وعدنا إلى عملنا في المكتبة المركزية، وواصلنا الجد بالجد والكتاب بالكتاب.
أتذكر تلك الرحلة بتاريخها المسجل على صفحات الكتب التي اشتريتها يومها، وما تزال مكتبتي معمورة بتلك الكتب الإنجليزية التي جمعتها من مكتبات بريطانيا بطبعات قديمة، بعضها صار الآن نادراً وتراثياً، وهي كلها ترتبط عندي بصورة الهدلق وذاكرته عندي. ولقد رددت له الرحلة تلك برحلة مثيلة لها بعد أن تفرقت بنا الديار حيث انتقلت أنا إلى إكستر (جنوب غرب بريطانيا) وجاء محمد لزيارتنا نازلاً من الشمال إلينا، وأخذته يومها إلى مكتبة تبيع الكتب القديمة والمستعملة (العين بالعين حيث قصاصنا بالكتب)، وراح محمد يشتري منها بنهم نعرفه عنه في حبه للكتب وحرصه عليها، ولن أنسى الرجل الإنجليزي، صاحب المكتبة، حينما سألني بعد شهر من تلك الزيارة: أين صديقك، ولم يعلم أن الهدلق قد جاء لزيارة سريعة وأنه يدرس في الشمال في ادنبرة، إنها بعيدة بعيدة، وهذه هي كلمة صاحب المكتبة حينما سمع قولي عن الهدلق وادنبرة، وهكذا هو الهدلق رجل تتذكره الكتب ويسأل عنه أصحاب المكتبات، وإن كان هذا حدث لنا معاً في مطلع السبعينيات من القرن الماضي أثناء بعثتنا في بريطانيا إلا أن علاقتي بمحمد قد ابتدأت قبل ذلك بعشر سنوات، وعلى التحديد عام 1385-1965، وهي أول سنة لي في الرياض في كلية اللغة العربية وقد سبقني محمد إليها بثلاث سنوات، ولكنه كان صديقاً لابن خالتي منذ زمنهما معاً في شقراء، وقد جاء إلى زيارتنا في منزلنا الطلابي، ومن أول لحظة لقاء بدأ بيننا نقاش في الكتب والثقافة، وكنت حينها أقرأ في ثلاثية نجيب محفوظ، وكانت أحداث الروايات تتدفق على لساني بين زملاء السكن، وهذا ما فتح باباً للكلام من الهدلق الذي كشف لنا وقتها عن ثقافته وبصيرته في الكتب والأدب، ومع قراءتي لمحفوظ وقتها وتماهي الهدلق في الحديث عنه وعن العقاد وزكي نجيب محمود، فإنه قد لاحظ أنني اشتكي من دموع في عيوني، ولما أبلغته أنني راجعت الدكتور الخولي، بادر محمد وقال بلهجة مصرية متقنة: عندك تراخوما، عاوز عملية، وقد تعجبت من تقليده للكلام ثم من كشفه ما قاله لي الطبيب، مما جعلني أسأله عما إذا كان حاضراً في العيادة حينما كشف على الطبيب، فقال لا، ولكن هذا هو ما يجده الناس عند ذلك الطبيب، وعيادته جنوب البطحاء مسرح لهذا كله، تلك لحظة ظلت بصورها الجاد منها والهازل تمثل لي صورة محمد الهدلق المستمرة معي، فهو رجل من أشد الناس وأقواهم جديةً وصدقاً وحرصاً، وفي الوقت ذاته هو إنسان ظريف ومتحدث مرن ومزاح عميق المعنى وراسخ الرؤية.
عرفت محمد الهدلق على مدى خمسة وأربعين عاماً، وعرفه عدد غيري من زملاء البعثة في بريطانيا، وخبرته أنا على مدى هذه السنين كلها، وكان أحسن ما في الأحسن الشيم -باستعارة كلمات المتنبي- وشيمة الهدلق هي الكتاب والكتب، وما مر عليّ يوم احتجت فيه لكتاب لا أجده في مكتبتي إلا وجدته عند الهدلق، ولا أحتاج إلا إلى مكالمة هاتفية قصيرة ويأتيني الكتاب إلى حدي، ولذا فإن مكتبة الهدلق الخاصة صارت عندي امتداداً مكانياً ومعرفياً لمكتبتي، وأخص بذلك كتب التراث، واسم محمد الهدلق يتوج كلمات الشكر في عدد من كتبي، وصورته الذهنية وجرس اسمه يرن في ذاكرتي كواحدٍ من أعز من عرفت وأصدق من زاملت وقف بوفاء بجانبي وجوانب الزملاء كلهم، فهو همزة الوصل في قصصنا كلها، وهو الذي يجمع صفحات الذكريات كلها بأنواعها كلها المازح الهازل منها والجاد الصارم.
كنت أقول له -وما أزال- إنك يا محمد تجني على نفسك وعلى العلم والأكاديمية حينما تتقاعس عن جمع بحوثك في كتب تبوبها حسب انتظام البحوث، وكان يرد عليّ قابلاً ومصادقاً على قولي، وظل وفياً لهذا الجواب على مدى سنوات وما زال وفياً في جوابه وأنا وفي في ملاحظتي، ولكن: لا كتب، ولا اسم لمحمد الهدلق على أي كتاب مطبوع، وتظل بحوثه حبيسة الدوريات والمجلات العلمية، ويظل هو وفياً ومخلصاً في تكرار الجواب كلما كررت أنا التساؤل. ولكني أقول إن محمد الهدلق لو طبع بحوثه في كتب لصارت كتبه مراجع من أهم مراجع الجامعات العربية في مجال التراث النقدي، وهو مرجع علمي موثوق ومعتبر في موضوع النقد العربي القديم، وليته يتم معروفه مع العلم والثقافة ويحسم أمره ويطبع كتبه. ألا تفعل يا محمد وأرجو أن تكرم محبتي لك وتقديري لك بقبول طلبي هذا وتحقيق وعدك الذي ظللت وفياً له.
وكم كنت أرى محمد الهدلق وكأنما هو الوجه الآخر لي، الوجه المغاير، وليس هذا بمعنى النقيض ولا بمعنى السالب، ولكنه الصورة المعاكسة، أي أنني أنا رجل مندفع لا تهمني حسابات الخطوة وأقول فكرتي بلا تحفظ ولا تحسب، بينما هو رجل دقيق ومدقق في خطوه وفي نظرته، وهذا ما يجعلني أشعر دائماً بحاجتي إلى رأيه لأجعل من مشورته صمام ضبط ووزن لحركتي، وأنا الرجل الذي ديدنه المغامرة والاقتحام وصاحبي ديدنه الحكمة والتروي، ومن هاتين الخصلتين المتغايرتين، ولا أقول المتناقضتين، نشأت حالة من الثقة في نفسي تجاه صاحبي، خصوصاً أنه رجل مخلص وصادق ولا يجامل في رأيه ولا يحسد أو يغار أو يبخل، وتلك عوامل تشجيع وإغراء، وفي آخر محاضرة عامة لي في الجامعة كان محمد الهدلق يجلس في الصفوف الخلفية من القاعة، ولم ألحظ هذا ولكن بعض الزملاء ذكروا لي ذلك قبل صعودي إلى المنصة، وما كان ذاك بموضع سؤال عندي، وصارت المحاضرة وانتهت وهو لما يزل في موقعه الخلفي، وبعد ذلك بيومين قابلته في ممر الكلية، وحينها بادرني بالثناء على المحاضرة وقال لي إنه كان متخوفاً منها حتى إنه رفض تولي إدارة الجلسة تلك لأن الموضوع عن القبائلية، وخشي من حساسية الموضوع وانفجار الموقف لما في الأمر من محاذير، ولذا حضر محاذراً ومتخوفاً على صاحبه مما قد يحدث، ولكنه وهو يقول هذا راح يثني على المحاضرة ويثني على طريقة العرض حيث رآه يعتمد أسلوباً موضوعياً محايداً لا يسيء لأحد، وظل يهنئني على حصافة العرض وحصن التخلص مما عكس مخاوفه وبدد شكوكه، وجعله يغير رأيه في المحاضرة.
قال هذا ولم يفتني أن أصطاد اللحظة بنكتة أو نكتتين معه، مع كل ما في نفسي من تقدير له على وضوحه من جهة وعلى صدقه مع نفسه من جهة أخرى، حيث لم يجامل الصداقة على حساب الموقف، ثم ختمها بأن ذكر لي قصة رفضه لرئاسة الجلسة، وقال كامل قصته معي ومع المحاضرة ورأيه النهائي فيها.
هذه صورة لمحمد الهدلق الصادق من جهة والصارم من جهة ثانية والواضح من جهة ثالثة، وهو الرجل النقي في قوله وفي تقديمه لنفسه.
ولن أختم حديثي قبل أن أشير إلى أن محمد الهدلق يقف وراء مجيئي إلى جامعة الملك سعود، ولولا موقف خاص وشجاع منه لتعطل أمر انتقالي إلى الجامعة، ولم أكن أعرف أي شيء عن ذلك، ولم أعرف أن معاملة نقلي قد تعرضت لمؤامرتين كادتا تفسدان الموضوع وأنا غائب هناك لا أعلم ما يحدث، ولولا نباهة أبي خالد وصدق الوقفة منه لما جئت إلى الرياض وقد أكون هناك في هولندا أو الإمارات أو هارفارد، وتلك قصة لم أقرر بعد كشف كل تفاصيلها، غير أني -فحسب- أنسب الفضل لصاحب الفضل، وأشير بالتقدير إلى دور هذا الرجل الوفي والصادق: محمد الهدلق.