عرفته شيخا وقورا، تتهلل من بين جنبات تضلعات وجهه أسارير البسمة والسرور، والألفة والمحبة، لا تشعر وأنت ساكن بحضرته بأي نوع من أشكال الرهبة، أو الخوف، يلفحك بشكل مدهش بعظمة تواضعه الجم، وأسلوب حديثه الرقراق، المكتنز بألفاظ الوجاهة والنعيم، لتشعر معه وكأنك مستكين أمام حضرة أولئك الكبار من علماء ومفكري عصر النهضة والتنوير العربي في ربوع وادي النيل وبلاد الشام، لم يستنكف من أن يأخذ معلومة تنقصه من أي أحد، كبر أو صغر، ولم يجد أدنى صعوبة في أن يعيد الفضل لأصحابه، راميا خلف ظهره كل الترهات من الأقوال والأفعال، ولم يجد غضاضة في أن يصدح بالحق بحسب ما يتراءى له دون إعمال حساب، والتفكير في التوازنات، إلى غير ذلك مما يفكر فيه البعض مليا، فكان لأجل ذلك وغيره كبيرا في سلوكه، عظيما في علمه، وافيا في أخلاقه وتبسطه، جميلا في مبسمه، متألقا في ما تخطه أنامله، إنه علامة الجزيرة العربية وشيخها المفضال حمد الجاسر يرحمه الله.
لازلت أتذكر بكل محبة وصفاء تلك الصباحات المشرقة التي كنت أتشرف فيها بزيارته، لأجده متوسدا أريكته بعد أداء تمارين رياضة المشي، تداعبه خيوط الشمس التي تتلمس طريقها من بين أروقة أفانين حديقته الوارفة الضلال، يتصفح تلك الجرائد الماثلة أمامه، فيتأمل بعض كتاباتها بعين المراقب الفاحص، ويتابع بعضها بعين الطالب المتعلم، ويقرأ ما تناثر أمامه من مكتوبات مستفهمة باحثة، أو مسلمة شاكرة، إلى غير ذلك من الأعمال الكتابية، التي ما فتئ كل من عرفه يتذكرها حتما، إذ أن مثله لا يغيب عن ذاكرة رائيه أبدا، فكيف وقد أصبح متجسدا أمام ناظرينا مع قراءة كل صفحة في كتاب (من سوانح الذكريات) الصادر عن دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر في العام 1427هـ، وهو مجموع مقالات سيرته الذاتية المنشورة في المجلة العربية خلال حياته.
لقد جسدت تلك السوانح كثيرا من خفايا شخصيته المعرفية والحياتية، وهي بحق تمثل تجربة ثرية يمكن لكل طالب علم، وباحث معرفة، بل وكل عصامي طموح، يهوى صعود الأعالي، الاستفادة من تسلسل أحداثها، وقيمة مضمونها، كما أنها على الصعيد العام قد ناقشت بكل يسر ووضح رؤيا، العديد من المواضيع الجوهرية التي نحن في أمس الحاجة حاليا لمناقشتها بكل روية وعقل، بعيدا عن التشنجات الفكرية والغلو والإجحاف، فكان يرحمه الله سباقا إلى طرح ذلك منذ فترة بعيدة، ومن ذلك ما أفصح عنه خلال سرده لسوانحه الجميلة بأهمية تقنين القضاء مع الأخذ في الاعتبار تعدد الآراء الفقهية لتعدد المذاهب المعتبرة، استنادا إلى توجيهات الملك المؤسس عبد العزيز يرحمه الله، وما أشار إليه من أهمية الكتابة في الأنساب، ومعرفة الرجال، وربط الماضي بالحاضر، والجديد بالقديم، فكان أحد المبرزين في ذلك، الذين أغنوا المكتبة العربية بالعديد من الكتابات الثرة في هذا الباب، التي يأتي على رأسها كتابيه القيمين (معجم قبائل المملكة العربية السعودية) و(جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد)، وحول ذلك نراه يشدد على أهمية ملاحظة بعض الجوانب العلمية لمن يتصدى للكتابة في هذا الباب، ويأتي على رأس ذلك أهمية بحسب رأيه: مسألة تحديد الغاية من التأليف في علم الأنساب، عوضا عن الأمانة في البحث والمصداقية، وهو ما حداه لخوض غمار هذا الفن، بهدف تسجيل مآثر الأمة العربية، (وبيان ما لهم من مناقب ومفاخر، بذكر المبرزين في كل قبيلة بخصلة من خصال المجد والشرف، كالشجاعة والكرم وحماية الجار وغير ذلك من الأمور المحبوبة)، والتصدي لمفتئتيه ممن ليسوا أهلا لذلك، الذين وقعوا في أخطاء لا يصح التغاضي عنها بحسب تعبيره، لكنه وعلى الرغم من عظم معرفته، وعميق تجربته البحثية الميدانية، لم يسلم شرفه الرفيع من الأذى من بعض أولئك المرتزقة، الذي عمدوا إلى النيل منه وتسفيه قوله، وهو أمر لم يعد غيره من الباحثين المتخصصين المعروفين بعلمهم، بمنأى عنه خلال هذه الأيام للأسف الشديد، الأمر الذي يدعونا كباحثين مهتمين إلى سرعة تفعيل الآلية القانونية الضابطة للحد من تدخل أولئك المتربصين المنساقين في تكريس أخطائهم البحثية الواضحة لكل ذي معرفة وعلم، لسبب أو لآخر.
ولاشك فقد كان ذلك هو جوهر مكمن إرادة ولي الأمر في بلادنا العزيزة الذي أحس بخطورة تمدد هذه الحالة المنفلتة من كل قيود العلم والمعرفة الشرعية، وأثرها على تكوين بنيان مجتمعنا بشكل أو بآخر، عوضا إمكانية استغلال تبعات ذلك من جهات خارجية حاقدة حاسدة، فكان إصدار أمره السامي بتكوين (جمعية للأنساب) تكون تابعة لدارة الملك عبد العزيز بالرياض، وكان وعيه بأهمية ذلك بينا واضحا من خلال الموافقة مسبقا على تكوين (اللجنة الخاصة لضبط وتوثيق أنساب الأشراف بالمملكة العربية السعودية) التابعة لمقام وزارة الداخلية الموقرة، اللتين حتما ستكملان بعضهما البعض، وستعملان على وضع منهجية علمية واضحة لتوثيق مختلف الأنساب وحفظها استنادا إلى ما قرره العلماء السابقون في هذا الباب، وإلى ما تقرره الوثائق والمستندات والحجج الملكية والوقفية وغيرها . وهو ما نتمنى أن نشهده فعليا، فهل يتحقق ذلك في القريب العاجل ؟ وهل سنشهد ملامح هذا التقارب والتكامل بين الجهتين الرسميتين بصورة سريعة ؟ حتى نتمكن من الحد من أي تسرب غير منهجي وغير علمي وتداخل للأنساب، ونعمل على منع ذلك التدخل السافر لبعض الجهات الخارجية الغير معروفة، التي تعمل على توثيق هذا ورفض آخر، دون مستند أو معرفة، وبعيدا عن أبجديات قواعد تداول هذا الفن حسب ما قرره العارفون المختصون.
- كاتب وباحث
zash113@gmail.com