لم يعد المثقف العربي معزولاً عن الأحداث أو مصادر الأخبار المختلفة، وما يتبع ذلك من وجهات نظر متباينة، تقولبها السياسة والمصالح والرغبات والانحيازات.
وبدلاً من أن يسافر ليبحث في أكشاك الصحف في العواصم المختلفة عما لا يصله منها، أصبحت لا تصله فحسب، بل إنه يراها حية ملونة يتطاير شررها حتى يكاد يلفح وجهه، وهو يستقبلها على شاشة تلفزيونه، أو كمبيوتره، أو جواله.
ولم تعد الحقيقة غائبة مغيبة؛ فهي سرعان ما تطل برأسها مهما نفت هذه الجهة أو تلك، ولقد تابعنا في الحروب الأخيرة على العراق، ولبنان، وأفغانستان أفضل الأمثلة على ذلك؛ فكان النقل الحي يلغي ويفند أكاذيب الجنرالات ووزراء الدفاع، كما حصل في الفلوجة، وحديثة، وجنوب لبنان، بل كل لبنان. كما كان للإعلام دور في فضح جرائم كما في (أبو غريب).. وادعاءات بالديمقراطية والمساواة والعدالة مثلاً كما في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية حينما عرتها الأعاصير، وأزالت الطين عن وجهها الحقيقي مياه المحيط.
وقد كنا في السابق ننتظر صور الوكالات الصامتة، وإن كانت الصورة تغني عن ألف كلمة؛ لنرى الجرائم الإسرائيلية، ووجوه النسوة المغلوبات على أمرهن، والشيوخ والأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة، صور الدم والدمار في فلسطين، أما اليوم فإن صرخات الثكلى، وجوههن ودموعهن التي تحرق القلوب، وأنين الجرحى الممزقة أطرافهم وصدورهم، والشهداء الذين تفحموا، أوْ لمْ يتبق من أجسادهم إلا هذا العضو أو ذاك، المساكن المحترقة المهدمة، الأشجار المجرفة، المخيمات المنكوبة، والمحاصرة، كل ذلك وأكثر منه بكثير، حاضر في العين والقلب، حيّ يهز الوجدان والضمير هزّا.
والمثقف العربي لم يعد معزولاً عن الجديد في عالم الكتابة والنشر والأبحاث، وها هي الكتب والبحوث الغزيرة تتوالى حول قضاياه العادلة بأقلام بني جلدته، وبأقلام غربية عادلة أرادت فضح الجرائم والأكاذيب، أو بأقلام مشاركين في جرائم الحروب، غرر بهم، أو صحت ضمائرهم لهول ما رأوا وعاشوا من أيام وأحداث تجعل لفظاعتها الولدان شيباً. ها هي الكتب والبحوث والأحداث تعري الإمبراطوريات الوهمية الكاذبة، والنظريات الخاطئة الساقطة.
والذي يعنينا هنا، هو كيف يمكن لمثقف غير معزول، وغير موجّه بريموت كنترول أوحد - إن افترضنا ذلك - أن ينحاز لعدوه أو ما يخدم عدوه، كيف يقلل من شأن حضارته وهويته ولغته، أو كيف يكون بلا موقف، أو كيف يحرجه ولا يتواءم مع حريته المدّعاة أن يكتب عن الحق وأن يذود عنه، فالحق - وكل الطرق المؤدية إليه أو التي تعززه - بيّن لديه، والباطل بيّن، الأسود والأبيض، الحقيقة والكذب، السمو والوضاعة، الشرف والنبل والحقارة، الأمانة والعهد والخيانة، الوطنية والعمالة.
كيف يصبح قلمه سهماً في كبد أمته؟!
وتصبح رسالته هدم بنيانها؟!
هل هو ضعف إيمانٍ أم ضعف انتماء، أم كلاهما معاً؟!
وهل هو عمى بصرٍ أم بصيرة؟!
هل هو جهل أم تجاهل، أم انبهارٌ بالوهم؟!
هل هو انزلاق في أتون المال والسطوة، أم هو اختيار وانحياز لهما؟!
في زمن المثقف غير المعزول عن المعلومة أو الحقيقة: وجدها، أم استنتجها برجاحة عقل، وعمق إيمان، وثبات موقف، وحب أوطان، يزداد الثابتون ثباتاً، وتزلّ أقلامٌ وأقدام بأصحابها إلى التهلكة والخزي.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5182» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
mjharbi@hotmail.com