من أحد مؤشرات التنمية الثقافية في المجتمع دور المثقف في قيادة التغيير، وهو دور لا يتم إلا بشرطين هما: تجاوز مأزق الهوية الثقافية، والقدرة على صناعة الحقيقة الثقافية، وهما شرطان لا يتحققان بدورهما إلا من خلال نشاط فكري وسلوكي؛ لأن ذلك النشاط هو بمثابة آليات صياغة خطاب التغيير.
وتعدد ممثلات دور قيادة التغيير؛ إذ لا تنحصر في النص الكتابي كما يتوهم المثقف لدينا؛ لأن النص الكتابي لا يُروج لموقف بل يعرض فكرة حيث يصبح النص مجرد استجابة لمؤثر مُعيّن تتفق مع صانع الاستجابة والمؤثر معا، وهو ما يُفقد النص الكتابي مصداقيته الثقافية، وأقصد (بالمصداقية الثقافية) صناعة الموقف الثقافي داخل النص الكتابي، وهو أمر يجب استيعابه من قبل المثقف، أي التفريق بين الرأي والموقف الثقافيين داخل النص الكتابي.
هل هذا يعني أن النص الكتابي لا يمكن صناعة موقف ثقافي من خلاله؟.
أولاً علينا أن نفرق بين الموقف الثقافي والموقف الكتابي، وبين النص الكتابي والمشروع الثقافي.
تعتمد صناعة الموقف الكتابي على مجموع من الآليات التي تسهم في إنتاج ذلك الموقف.
كل موقف كتابي يبدأ بفعل، أي مجموع سلوكات تنقل الفكرة من المجرد إلى المحتوى، ويمكن تعريف المجرد بأنه العلامات الذهنية لخصائص الفكرة باعتبار أنها ستصبح حدثا؛ إذ إن العلامة لا تحتوي على فكرة، بل الحدث هو الذي يحتوي على فكرة؛ فالحدث هو الذي يُثبّت الفكرة عن طريق نموذج التمثيل، وأمثلة التكرار والاختلاف والتشابه، وبذلك فكل حدث يُقدم من خلال علاقة.
والفكرة في مجردها عبارة عن مجموع علامات ذهنية مفردة، وكل علامة تمثل فعلا لسلوك خاص، واجتماعهما ينتجان حدثا، كما تمثل العلامة ردة الفعل لانفعال خاص يُنتجان حدثا، والفرق بين علامتي الفعل وردة الفعل الصفة التي تمثلها، فعلامة الفعل مؤثر، في حين أن علامة ردة الفعل استجابة، وهي بذلك تمثل رتبة لا قاعدة مثل علامة الفعل، وكلا الفعلين ينتجان نفيا وإثباتا كحاصل استجابة ويتمثل حاصل الاستجابة من خلال القرار بالقبول والرفض.
ويمكن تقديم خارطة توضيحية لبناء الموقف الكتابي في حالتي المؤثر والاستجابة، وحالة بناء العلاقة من خلال ما يأتي:
هناك فرق بين العلامة كرمز للفعل والعلامة النسقية؛ إذ إن العلامة النسقية هي من خصائص الموقف الثقافي لارتباطها بالتيمة ولتمثيلها دور النطاق، وهكذا فإن الموقف الكتابي لا يحتوي على تيمة؛ لأن الاقتضاء فيه ليس علاقة استدلالية بل حاصل علاقة حدثيّة.
تعتبر العلامات النسقية من أهم وسائط بناء المفاهيم في الخطاب؛ ما يجعل العلامات وحدة بنائية من وحدات تشكيلات الحقل الخطابي، باعتبار أنها تمثل وظيفة إحالية تربط بين العلاقات والتشكيلات الخطابية لتكوين خلفية تنظم عملية التأويل، وبذلك فالعلامة النسقية تقدم مفهوماً خلف مفهوم أي دلالة فوقية ودلالة تحتية، والدلالة الفوقية تتعلق بتنظيم الأفكار والدلالة التحتية بصياغة النظم، وهي الصياغة التي تكوّن العلاقات الخارجية بالمفهوم؛ ما يجعلها منظومة تأويلية للقصد والفهم، عبر حالات العبور التي تتمثل من خلالها كفهم وتأمل واستنتاج لقيمة الاعتبار، وحالات العبور تتم وفق الدلالة التحتية للعلامات النسقية، وأهمية العلامات النسقية تكمن في تعدد وظائفها؛ فهي وسيط كوحدة تكوينية وخلفية كوحدة تحليلية، وهي وحدة تنظيمية للعلاقة بين البنية الفنية والمرجع الفكري، وهي قالب إجرائي للمثال الخطابي، إضافة إلى أنها ممثل لأنماط علاقة المرء بذاته من خلال الجسد والثقافة والسلطة.
والعلامة النسقية عبارة عن مكوّن يجمع بين العبارة والإشارة (الساتر والسند) وخصائصهما من المعنى الحقيقي والمجازي والتصريح والإضمار، من خلال توزيع الاعتبار على سُلمي الإشارة والعبارة، وبذلك يقترب الخطاب الثقافي في خصائص علامته النسقية من الخطاب الفلسفي، أقول يقترب ولا يتطابق؛ لأن الخطاب الفلسفي يتعامل مع العبارة والإشارة كآليتي من آليات الخطاب، في حين أنهما في الخطاب الثقافي وعبر العلامة النسقية يتحولان إلى دورة وجودية للمفهوم.
ولست هنا بصدد تقديم مقارنة تفصيلية بين الإشارة والعبارة في الخطاب الثقافي والخطاب الفلسفي، ولكني سأوجز المقارنة من خلال محاور كلية دون تفصيل.
يتعامل الخطاب الفلسفي مع العبارة والإشارة باعتبار أن كلتيهما تمثل سلما وظيفيا يختلف عن الآخر، وبالتالي يسهمان بطريقة مباشرة في تشكيل المفهوم الفلسفي، في حين أن الخطاب الثقافي يدمجهما ليوحد سلمهما الوظيفي ضمن علامات نسقية باعتبار القرينة، وبالتالي يصبح تأثير السلم الوظيفي للإشارة والعبارة غير مباشر؛ كونهما يختبئان في دلالتي العلامة النسقية، التي بدورها هي المساهم المباشر في تشكيل المفهوم الثقافي، لكن هذا لا يمنع الخطاب الثقافي من الاستفادة من آلية التشقيق التي يعتمد عليها الخطاب الفلسفي في تحليله لوظائف الإشارة والعبارة لكن ضمن إطار ومحتوى المعنى الحقيقي للعلامة النسقية التي هي من أهم خصائص العلامة النسقية.
وهناك أمران يجب التركيز عليهما في صناعة الموقف الكتابي، وهما العلاقة والحالة، العلاقة عبارة عن فعل وسلوك وحدث، والحالة ردة فعل وانفعال وحدث، لكن اجتماع تلك الآليات لا يؤدي بالضرورة إلى تكوين علاقة داخل الموقف الكتابي، باعتبار أن الموقف الكتابي عبارة عن مجموع علاقات وحالات.
والعلاقة هي مجموع تفاعلات حاصل حدثين متناقضين أو حدثين متكاملين من خلال عناصر الإنسان بذاته، وهي الحب والسياسة والعلم والمعرفة، مقابل للأنماط الرئيسة للذات: الجسد والثقافة والسلطة، وترتيب ما ينتج عن تلك العناصر من تفاعلات ومنطقتها؛ أي قصدية صناعة المرسل والمرسل إليه داخل الموقف الكتابي، وهكذا تقترب العلاقة داخل الموقف الكتابي من العلامة النسقية من خلال مضمونها، لكنها تختلف. إذاً تظل عناصر توليد العلاقات داخل الموقف الكتابي مجرد دلالات، في حين أنها تتحول داخل العلامة النسقية إلى مفاهيم.
لكن الدلالة بدورها تمثل حقيقة من خلال إنتاجها الحالة، والمقصود بالحقيقة هنا تمثلان وهو ما ذهب إليه ديكارت، إذ جعل التمثل الذاتي داخل الموقف الكتابي مقياسا للحقيقة باعتبار مضمونه، ووفق ذلك التمثل كمطابق مع ممثل سابق.
وبذلك يتم ترتيب تفاعلات العلاقة بين العبارة القالب الصياغي للموقف الكتابي وبين الموجود الذهني والموجود العيني، وبناء على تلك الثلاثية تتشكل الحقيقة داخل حالة.
الحقيقة أي توفير ضمان منطقي وتناسبي بين مستويات عناصر العلاقات، الحب والسياسة والمعرفة والجمال، والمنطقي تفكيك الوقائع باعتبار وجودها الذهني والعيني وإعادة تشكّلها ضمن علاقات وحالات، والتفكيك والتشكّل لا يمنحان الموقف الكتابي أي خاصية تحقيل، بل دلالة مُكثّفة.
أما التناسبي فهو يتعلق بالتركيب الإجرائي لتوزيع العلاقات وفق ترتيب خاص للحدثين المتناقضين أو التكامليَّين.
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة
seham_h_a@hotmai.coml