الثقافية - علي بن سعد القحطاني:
قصة تعليم المرأة في المملكة لم تتجاوز الخمسين عاماً، كانت في بداياتها محفوفة بالإثارة والمغامرة في مجتمع ينكفئ على ذاته ويتوجّس خيفة من المتغيّرات، ويحمل لواء الممانعة وربما المكابرة والعناد في رفضه لكثير من مستجدات العصر، والمبالغة في تصوير أخطارها، وكان هناك أصوات مناوئة تطالب بوأد المرأة فكرياً ومنعها من حقها في التعليم على غرار المطالبة بوأدها وتصفيتها جسدياً في العصر الجاهلي، وقام الدكتور عبد الله الوشمي نائب رئيس نادي الرياض الأدبي في كتابه (فتنة القول بتعليم البنات في المملكة العربية السعودية)، بمناقشة هذه القضية، واستطاعت دراسته أن تفتح هذا الملف الذي كان شائكاً في الماضي .. وفي حوار أجرته (الثقافية) مع المؤلف تحدث من خلال نظرته الأكاديمية والنقدية لهذا الملف المقلق، مستعيناً في ذلك من خلال الوثائق القديمة التي تكشف لنا سيلاً هائلاً من الممانعة متمثلة في مراسلات العلماء ومكاتبة الأدباء والأفراد في الصحف القديمة.
الملف المقلق
القيام بفتح مثل هذا الملف المقلق إلى حد كبير .. كيف تنظر إليه؟
- نحن نعيش في وسط ثقافي يتكوّن من عدد من المؤثرات المعرفية المتجددة، وهذا يفترض قراءة جديدة لواقعنا وتاريخنا، وربطاً أعمق بين مفرداتهما، وكنت أفسّر كثيراً من الظواهر من خلال المقارنة بما حدث سابقاً، وكثيرون يحيلون إلى تعليم البنات بوصفه نموذجاً صارخاً للمانعة والرفض، ولكنني لم أجد من تفرّغ له وقام بتحليله ودراسة الظواهر المقلقة والمستفزة، فبدأت بذلك اجتهاداً ورغبة بالفهم، وانطلاقاً من أنه من حق جيلي ومن سبقهم ومن جاء بعدهم، أن يعرف سيرورة التجربة الحضارية في المملكة، ولذلك بدأت كتابي بإهداء مركز، فقلت: إلى كثيرات لم تفلح مدارس المحو في أن تقتلع شجرة الذنب الكبيرة التي غرسها المجتمع، إليهن جميعاً شيء من الإجابة .. ومع ذلك فالسؤال الكبير الذي واجهني بعد صدور هذا الكتاب، هو لماذا تكتب في هذه المواضيع الخطرة أو التي يتخوّف منها كثيرون ويرفضونها.
الأصوات الناشزة
تعليم المرأة لا يتجاوز الخمسين عاماً في المملكة، ومع ذلك هناك من يرى حتى يومنا هذا، أنّ في وجودها بالمؤسسات التعليمية والمدنية فتنة .. متى نتجاوز تلك الأصوات الناشزة؟
- في كتابي حاولت أن أقرأ المهاد النظري للقول بحرمة تعليم البنات، وربطت بين الرأي الشرعي عند بعضهم والرأي الاجتماعي، ووقفت على نماذج لكثيرين تسولوا الرأي الشرعي لتدعيم رأيهم وموقفهم الاجتماعي سواء في تعليم البنات أو تعليم البنين، ولذلك سرعان ما يخالف أحدهم المرجعية الإسلامية النقية، من أجل تسويغ موقفه الاجتماعي ورأيه وعرفه وما اعتاد عليه، مع العلم أنّ مشروع تعليم البنات كأي قرار رسمي في المملكة لا يتم بعيداً عن الدائرة الشرعية، وإنما يتخذ القرار ولي الأمر - وهو الملك سعود رحمه الله، في ذلك الوقت - ويوكل دراسته الشرعية إلى علماء الدين - محمد بن إبراهيم رحمه الله - ثم يتم البدء به ومتابعته، ومع ذلك يتحفّز الرأي الاجتماعي ويستدير على الرأي الشرعي، وتتكرر الممانعات.
الخصوصية
مجتمعنا يبالغ في خصوصيته، ودائماً ما يتخذ مواقف سلبية وممانعة وربما العناد في رفض كل جديد .. لماذا لا تستحضر تلك الملفات القديمة ك(الموقف من تعليم المرأة) في مناقشتنا اليوم لكل مستحدثات العصر بحيث نتلافي تلك الأخطاء، أم أنّ المجتمع يدور في حلقة مفرغة؟
- أظن أنّ هذا الخطأ يرتفع من طبقة عامة الناس إلى طبقات المثقفين والعلماء والمشايخ، فالمواقف والفتاوى والآراء التي قالها وحرّرها ممانعو تعليم البنات والتي حرّرها المؤيدون، ظلّت بعيدة جداً عن آفاق البحث في قضية الإنترنت وبطاقة الأحوال وغيرها مع أهميتها وتشابها المرجعية فيها، كما أنّ فتنة القول بتعليم الأولاد هي الأخرى استثنيت في ظل الحديث عن تعليم البنات إلاّ في شقها السلبي، وهو التهويل والتخويف من الجديد.
الوثائق
تنوّعت مصادرك في مؤلفك ما بين (الشفاهي) و(المكتوب)، ويلاحظ أنّ حجم الوثائق شكّلت 35% من حجم كتابك .. ألم تمثل هذه النسبة عبئاً على هذه الدراسة أم أنّ الاعتماد عليها جاء من خلال إلحاح معرفي بضرورة وجودها والاستشهاد بها كمرحلة تاريخية مثلاً؟
- كان هدفي الرئيس هو تحليل هذه الفتنة ومقاربتها، وطرح نموذجها من جديد أمام القراء والمتابعين بهدف استخلاص المنهج والرؤية منها، وهذا لا يتم إلاّ من خلال النصوص والمشافهات والوثائق؛ ولذلك جمعتها وما زلت بصدد إكمال ذلك لاحقاً، وقد أرجأت جزءاً منها للطبعة الثانية، ووصلني وثائق ومعلومات جديدة من عدد من الباحثين في عدد من المناطق، وكلها ستكون مصدراً يعزّز رؤى الكتاب، وقد وظفت من الوثائق ما يفيدني في سياق بحثي، ولكني أثبت عدداً من المقالات بنصها رغبة في أن يعيش القارئ حرارتها الحقيقية ووقعها نفسه الذي كان على قارئها المباشر، وخذ مثلاً صورة رعاية الملك سعود - رحمه الله - لحفل الطالبات، أو المقالات التي وجهها بعضهم إلى الملك فيصل - رحمه الله -، وغيرها.
أصداء
كان صدور الكتاب مفاجئاً لحساسية الموضوع، وتصدر المبيعات، ونفد، وأشار إليه بعض الباحثين بوصفه كتاب العام، بم تفسر هذا الاستقبال، وهل لغرابة الموضوع أثر في ذلك؟
- تعرّض مجتمعنا لعدد من المتغيرات المثيرة، وظل أغلبها غائباً دون تحليل وقراءة، وما زالت الأسئلة تتراكم وتتزايد دون إجابات، ومن حق الجميع أن يعرفوا تفسيراً وشرحاً لما حدث، وما زلنا نروي أطرافاً من الحقيقة دون أن نلمَّ بتفاصيلها، فجاء كتابي هذا ليجتهد في مقاربة الحقيقة، وليقول عن الجهود التي بذلتها الحكومة والملوك والعلماء والأساتذة ولتحتفي بما بذلوه، ولتشير إلى حقائق أغفلها التاريخ، كجهود الملك سعود وفيصل والأمير سلمان، والشيخ محمد بن إبراهيم والرشيد وابن مانع، ولتشير إلى مقالات المطالبين بتعليم البنات ووفودهم إلى الحكومة للمطالبة، كما تشير إلى الفتنة التي شاعت من خلال صدور بعض الفتاوى والخطب في التحذير من تعليم البنات، ولتكشف عن أنّ بعضها لم يكن بسبب ديني فحسب، وإنما كان موقفاً ثقافياً من الجديد، وقد ماثلته مواقف متنوّعة من البلاد العربية والإسلامية.
التجربة
بعد خمسين عاماً من فتنة القول بتعليم المرأة .. كيف تقيّم تلك التجربة وكيف تراها اليوم خصوصاً وأنها تبوأت مراكز قيادية في المؤسسات التعليمية والمدنية؟
- أكيد أنّ التجربة مثيرة، فهي خطوة حضارية متقدمة عند كثيرين، ولكن بعض أبناء تلك المرحلة المبكرة ما زالوا يقاربونها بنوع من الشك الذي يرتفع عند بعضهم إلى الرفض، سواء بالتحفّظ أو التحريم أو ما شابه، فالفكر غالباً أنه لا يموت، وإنما تظل بذوره كامنة تنشط بين آونة وأخرى.