حين اطلعتُ على ما نشرته (الثقافية) من أمر السرقة التي ارتكبها (حفناوي بعلي) في حقِّ كتاب الغذامي (النقد الثقافي) عادت بي الذاكرةُ إلى الخبر الذي نشرته صحيفةُ الندوة عام 1987م عن سرقةٍ ارتكبها الغذاميُّ في حقِّ أحد الأساتذة المصريين؛ فبنى بها كتابَه (الخطيئة والتكفير)، وبنى بها اسمَه ورسمَه في مشهدنا النقدي والثقافي.
ولأنني أؤمن إيماناً تاماً باستجابة حركاتِ الذاكرة لما لا يُحصى من المتطلبات الدلالية، فقد تدبرتُ شأنَ هذا التذكّر الذي ولد ليربطَ ما بين حادثتين، يفصل بينهما فاصلٌ زمني كبير، يبلغ من العمر ثلاثةً وعشرينَ عاماً، فكانت هذه القراءة.
لقد شدّ انتباهي من الوهلة الأولى وجودُ تشابهٍ كبيرٍ بين الحادثتين، حتى كأنهما ظل لبعضهما، وهذا وحده يكفي مسوِّغاً لتفعيل حالة التذكّر التي تعرضّت لها؛ فكلتا السرقتين كُشِفَت عن طريق رجلٍ ينتمي إلى العمل الصحفي (في الأولى مليباري وفي الثانية السمطي)، وكلتاهما أيضاً سرقة كبيرة، تتعلق بكتابٍ كاملٍ لا بفكرةٍ صغيرةٍ تغطيها الصور، وكلتا السرقتين ارتبطتْ بكتابٍ محتفى به، فكتاب (الغذامي) حاصلٌ على جائزة مكتب التربية العربي وكتاب (بعلي) حاصلٌ على جائزة الشيخ زايد -رحمه الله -، وأكثرُ أنماط التقارب بين الحادثتين وجود (الغذامي) في كلّ منهما، في الأولى بوصفه سارقاً خلواً من القيمة والمبدأ، وفي الثانية بوصفه مسروقاً من ناصية رأسه حتى أخمص قدميه، ومع أنّ هذا التشابهَ يغري بطرائق كثيرة للمعالجة فإنني سأكتفي بالتوقف عند تعامل الغذامي مع كلّ منهما، ثم سأنتهي إلى فكرة محددة أكمِّل بها ما كنتُ كتبته عن (الغذامي) من مقالاتٍ في هذه المجلة الرشيقة.
عندما نقرأ الحادثتين بهوامشهما يلفت انتباهنا تعامل الغذامي الموحّد معهما رغم اختلاف موقعه فيهما، ففي الحادثة الأولى وجد (الغذامي) نفسه أمام مأزق أخلاقي لا يقبل القسمة على اثنين، فإما أن تثبتَ سرقته فيظهر على حقيقته كاذباً مزيفاً، وإما أن تُنْفَى عنه التهمةُ فيعود كما كان باحثاً أميناً -في نظر طلابه على الأقلّ-. لم يُطِل (الغذامي) -كعادته- التفكيرَ ولا التقديرَ، فاختار الطريقَ الأصعبَ، وكتب خطابين أحدهما إلى مدير الجامعة يطلب فيه التحقّقَ من صحة هذا التهمة، وفصلَه من الجامعة وسحبَ الترقية منه في حال ثبوتها، والآخر إلى مكتب التربية العربي يطلبُ فيه التحقّقَ وسحبَ الجائزة أيضاً.
وبهذين الخطابين أدخل (الغذامي) كلاً من (الجامعة) و(المكتب) حلبةَ الصراع، وحمّلهما مسؤوليةَ إثباتِ التهمة التي ألقيت عليه أو نفيِها، وأعلنَ للجميع من خلال منبر النادي الأدبي بجدة عن الخطوات التي اتخذها في هذا السياق.
وبعد أربعة أشهر من التحقّق والتحقيق صدر بيانٌ رسمي من الجامعة يبرِّئ (الغذاميَّ) من تهمة السرقة، ويعيد إليه مكانته العلميةَ والأخلاقيةَ أيضاً، وانطوت بذلك صفحةُ هذه التهمة بانتصار الغذامي، وانكشاف خيوط اللعبة واللاعبين (انظر: حكاية الحداثة، ص193). وأما في الحادثة الثانية فقد اتخذ الغذاميُّ أربعةَ قراراتٍ صعبة، هي: تحمُّلُهُ المسؤوليةَ كاملةً، وتبرئته الزملاءَ في اللجنة الاستشارية من تفاصيل الحادثة، واستقالتُه من اللجنة نفسها، وسكوتُه عن (حفناوي بعلي)؛ مكتفياً بالحرج الذي أصابه. نحن إذن أمامَ حادثتين بينهما قدرٌ كبيرٌ من الشبه، وأمامَ قراراتٍ حاسمة وفاعلة في كلّ منهما، فقط تغير موقعُ الغذامي فيهما، فقد كان في الأولى سارقاً وأصبح في الثانية مسروقاً منه، لكن رغم هذا التباين الحدي بين الموقعين نجده يتعامل معهما تعاملاً واحداً، ولم تختلف طريقة تعامله باختلاف الحادثة أو باختلاف موقعه منها.
فحين كان سارقاً فرض على نفسه عقوباتٍ مغلظةً، دون أن يضعَ مقابلَ هذه العقوبات تعويضاتٍ يحصلُ عليها إذا ثبتت براءته -رغم ثقته المطلقة بذلك-، فلم يطلب -على سبيل المثال- تعويضاً مالياً من الصحيفة يتوازى مع حجم الضرر النفسي الذي لحق به، ولا حركةً إشهاريةً من الجامعة تعيد إليه شيئاً من البريق واللمعان.
وحين تغيرت الحادثة، وتغيرت البيئة المحيطة بها، وتغير موقعه فأصبح مسروقاً لا سارقاً، فعل الفعلَ عينه، ففرض على نفسه عقوباتٍ مماثلةً، دون أن يضعَ مقابلَ هذه العقوباتِ تعويضاتٍ ماديةً أو معنويةً، كأنْ يطالبَ بفصل (حفناوي) -مثلاً-، أو بسحب الجائزة منه، أو التشهير به...، بل لم يستثمر الحادثة حتى في إعادة الوهج لمشروعه...، لم يفعل ذلك كله، رغم كونه فرض على نفسه كلَّ ما سبق حين كان سارقاً قبل عشرين عاماً !
تشفُّ هذه المفارقة المهمة عن أنّ الغذامي ينطلق من رؤية واضحة ومحددة لذاته وللعالم الذي يحيط به، قابلة للاستمرار في الزمن، فهو يؤمن بمسؤولية المفكِّر عن نفسه أكثر من أي شيء آخر، ويجعلها أساساً أولياً مهماً ، يترتب عليها صلاح الفكر والمجتمع بأنساقه وسياقاته، صلاحاً جوهرياً لا سطحياً مزيّفاً. ولأنّ الغذامي قد آمن بهذه الرؤية إيماناً راسخاً فقد ظلّ مخلصاً لها طيلة مشواره العلمي...، تتبدل المواقف، وتتغير الحوادث، ويتغير موقعه منها أو فيها، لكنه يظلُّ مخلصاً للرؤية أكثر من إخلاصه لنفسه؛ لأجل ذلك عاقب نفسه وهو مسروق بقدر ما عاقبها وهو سارق، وتحمّل المسؤولية في كل منهما، علناً لا سراً، وبشكل سريع للغاية.
حاولَ قومٌ أنْ يمنعوه من طلب التحقيق حين اتُّهِم بالسرقة فأبى (انظر: حكاية الحداثة)، ثم حاول قومٌ آخرون أن يمنعوه من الاستقالة حين سُرق منه فأبى (انظر:الثقافية، ع322)، لا يتعاطى كثيراً مع رؤى الناس من حوله؛ لأنّ لديه الرؤيةَ التي تكفيه...
إنّ الرؤية الواضحة شرطٌ مهم لحياة الإنسان في زمنٍ تعقدت فيه القيم، وتماسّت فيه الأشياء، وهي شرطٌ لا بدّ من توافره في المفكِّر الذي يؤدِّي دوراً مهماً في قيادة هذا الزمن ذهنياً، ومتى افتقر المفكِّرُ إلى الرؤية فقد أصبح كلَّ أحد إلا نفسه، وتاه في مساقاتٍ ينقضُ بعضُها بعضاً، ويتعارض أولها مع آخرها، وأخلَّ بالوظيفة التي تُسند عادةً إلى مثله، وما من شكّ في أنّ لهذا الاختلال انعكاساً على الواقع مباشراً أو ضمنياً.
تعامل الغذامي الموحّد مع هاتين الحادثتين المختلفتين يعطينا مثالاً حياً على المفكِّر المتصالح مع نفسه رؤيوياً، ولأنه كذلك فإنه يصدر في قراراته كلِّها من نفسه؛ لذلك يتلقى اعتراضاً دائماً من بيت الثقافة فضلاً عن غيره؛ كونه لا يتعاطى مع الرؤى السائدة والنمطية من جهة، ولا مع تلك المتقلبة مع المصلحة الآنية.
أعجب كثيراً من بعض مفكّرينا كيف أن آخر مشوارهم الفكري يتعارض تماماً مع أوله، وكيف أن أعمالهم تجيء مغايرة لرؤاهم، إلى الحدّ الذي يبدو فيه الديموقراطيُّ منهم قبل المنصب قمعياً بعده، والحواريُّ خارج السلطة أحادياً داخلها، والتأصيليُّ تحت نقطة الضوء انتهازياً من ورائها، ولم أجد ما أفسِّر به هذه المهزلة إلا الفراغ الرؤيوي، الذي أنشب أظفاره في بعضهم، فدفعهم – من حيث لا يشعرون - إلى اقتراض الرؤى من الآخرين، أو اختيار الرؤية التي تجلب لهم مصلحة ذاتية آنية، ومجاوزتها إلى غيرها من بعدُ.
طالب الغذامي بفصله وسحب الجائزة منه حين اتهم بالسرقة، واستقال لما سُرق منه، واعتذر عندما أُسْنِد إليه منصب، ورفض مقابلاً مادياً لمحاضراته من بعد التقاعد، وردّ فكرة التوقيع على منصة الإهداء؛ لأن الكتبَ ليست إهداءً، وقاطع الأندية؛ لأنها لم تطبق اللائحة، وتبنى مستوى من الخطاب واحداً، فلم نلمس تغيراً في كلماته من مجلس إلى آخر، ولا تبدّلاً في هياكلِ أفكاره موافقةً لأحوال المتلقين، فهو في مجلس الوزير مثله بين طلابه، وهو في الخفاء البارز على صورته في العلن، وهذه كلها علاماتٌ على تصالحه التامّ مع نفسه، واتكائه على رؤية تامّة.
إنّ اشتمال المفكر على رؤية واضحة، ثم تصالحه مع نفسه عليها، يجعله أكثر ثباتاً في وجه المتغيّرات المتلاحقة، وأكثر قدرةً على تأدية دوره كاملاً في قيادة الزمن على المستوى الذهني، وأكثر إقناعاً بأهمية الدور الذي يؤديه.
1528
الرياض