لا شك أن الانتخابات الثقافية لا تنحصر قيمتها في تكوين الجمعية العمومية، بل لعلني أظن أن لا قيمة ستُنجز بتحقيق الجمعية العمومية بمفردها؛ لأنها ليست مصدرًا لتفعيل التغير والتغيير، إنما مصدر تفعيل التغيير والتغير وجديتهما كما أحسب هي البرامج الثقافية الانتخابية، ولذلك يجب التركيز على صناعة تلك البرامج؛ لأنها هي التي ستُحدث على الاعتبار التغيير الثقافي.
وإذا وضعنا هذه المسألة؛ مسألة صناعة البرامج الثقافية الانتخابية في دائرة الضوء فلا بد أن نناقش كل العناصر المتعلقة بها، بداية من مرحلة «تحضير الوعي الثقافي الانتخابي» أي الخلفية الثقافية لمفهوم البرنامج الثقافي وأصولها وخصائصها التي يمتلكها المثقف سواء كمنتخِب أو منتخَب.
فتوفر إمكانية الوعي بقيمة النظرية ليست منحصرة على المؤثِر بل هي شاملة للآخر المتأثر وفق العقد الوجداني للشراكة بين الطرفين والقائم على الإيمان المشترك بين المؤثِر والمتأثر على مستوى الاتفاق على القيمة، ومستوى الاتفاق على التبادل النفعي، ومستوى الاتفاق على نوع الحاصل.
وتقويم هذه المرحلة يعتمد على ماهية «محتوى الوعي» المحرر لعقد اتفاقيات الشراكة بين المنتخِب والمنتخَب، وذلك المحتوى يتألف من طرح المشكلات الثقافية، وكيفيات رفع سقف المشهد الثقافي وتجويد الإنتاج الثقافي، وحتى يصبح هذا المحتوى منطقة التقاء بين شريكي البرنامج، وحتى يتم بناء هذه المنطقة لا بد أن يتجاوز الطرفان الرؤية الفردية الأحادية؛ فلا يتوهم المنتخَب بأنه وصي على المنتخِب ولا يستطرد المنتخِب في حلم طوباوي نخبوي يثقل به كاهل المنتخَب، ولذلك وجب التفاهم المشترك بين الطرفين المحِقق لرؤية مشتركة وشمولية، لا مفاوضات متبادلة تتصارع في فرض رؤى متوازية.
وقد يرى البعض أن تحقيق التوازن بين الطرفين معادلة صعبة؛ بسبب تذبذب المثقفين السعوديين في تحديد أوليات وأولويات التغيير الثقافي مما يوسع عشوائية الخيارات المطروحة والذي يربك بدورة الوحدة الموضوعية لمحتوى البرنامج، إضافة إلى ما يتصف به المثقف السعودي من رؤية أحادية متطرفة نتيجة التفكير والعمل الفرديين الذي تعود عليهما، وغياب أجندة رئيسة لمشروع ثقافي مشترك بين المثقفين.
وأنا لا أنكر وجود تلك الصعوبات أو استهين بتأثيرها السلبي على الوعي الانتخابي لكلا الطرفين.
وهذه هي فائدة التحضير للوعي الانتخابي؛ أي حل مشكلة تقاطع وجهات النظر بين المثقفين والاجتماع على طاولة الحوار الثقافي للتوصل إلى اتفاق ضمني بتوحيد الوعي الثقافي على مستوى المقاصد والغايات وتحديد الأولويات.
وحتى يتم ذلك التحضير لا بد أن تشهد الفترة القادمة تكثيفًا لنشر الوعي الثقافي بمتطلبات مرحلة التحضير من خلال تبني الأندية الأدبية برنامجًا إرشاديًا في هذا المجال يدعو إليه المثقفين لترسيخ مفاهيم ثقافة الوعي الانتخابي وأهدافه ومسئولياته وغاياته.
وتوفر الوعي الثقافي الانتخابي لا يكفي لتحقيق كفاءة وقدرة صناعة البرنامج الانتخابي الثقافي؛ لأن البرنامج الثقافي ليس أفكارًا بل هو منهج، ولذا فإن سؤال الاستفسار عن استطاعة وقدرة المثقف على ممارسة هذه التجربة سواء كمنتخِب أو منتخَب، على مستوى صناعة شعار البرنامج ورؤيته ورسالته وإجراءاته بالنسبة للمنتخَب، أو على مستوى الاقتناع والتمييز والتقويم والاختيار بالنسبة للمنتخِب مرتبط بكيفية استثمار الوعي الانتخابي واستثمار الكائنية الثقافية المتوفرة واستثمار الهوامش الصريحة والضمنية للواقع الثقافي، لأن الإيمان بالأفكار المشتركة مكتسب مرحلة التحضير وطاولة الحوار الثقافي ليس بالضرورة أن يحقق انجازًا تطبيقيًا؛ لأن الإيمان بمقتضى الشيء لا يساوي قيمة أو غاية إذا تعارض مستوى الكائنية مع مستوى المتوقع «تفعيل التطبيق»، وهذا ما يجب أن ينتبه إليه صانع البرنامج الثقافي الانتخابي؛ أي ضرورة التوافق بين الكائنية الثقافية والمتوقع الثقافي وتجنب التصادم بينهما.
ولا يُفهم من مطلب ضرورة مراعاة ثنائية التوازن تلك الدعوة إلى تصميم البرنامج في ضوء «المكن المتاح»، إنما وفق استثمار «الممكن الأقصى» من قدرات الكائنية.
يتحقق الاستثمار من خلال عملية إعادة تدوير الكائنية المتاحة من الواقع الثقافي لتجديد قدراته الإجرائية واكتشاف تأويلات تبريرية لاستحداث أفكار إجرائية وبذلك تستطيع الكائنية تأسيس إستراتيجية إجرائية جديدة يعتمد عليها البرنامج الثقافي الانتخابي.
وقد يرى البعض أنه من الخطأ أن نعادل بين الإستراتيجية والكائنية المتاحة والقصوى من حيث القيمة وتبادل الدور، لأن هذا التعادل يحصر قدرة التطوير والاستفادة داخل إعادة تدوير الكائنية المتاحة، ويربط نوعية الناتج بمستوى الكائنية وسعتها التغيرية مما يضر بسلسلة النظم الإجرائية.
والرأي السابق يشير إلى شرط من شروط التغيير، في حين أن إعادة تدوير الكائنية هي عملية تطوير وليست عملية تغيير، وعملية التطوير عادة ما تعتمد على آليات «إعادة التدوير» أو ممكن أن نسميها «استراتيجية إجرائية»
في حين أن عملية التغيير تعتمد على تأسيس استراتيجية دستورية وأنظمة إجرائية.
كما أن الرأي السابق يطرح أمامنا ثلاثة أسئلة، سؤالان يتعلقان باعتبار الترتيب المنطقي للإنتاج وهما: هل الإستراتيجية الدستورية هي التي تنتج الكائنية «الأنظمة الإجرائية» ؟، أو أن الكائنية «الاستراتيجية الإجرائية» هي التي تصنع الإستراتيجية الدستورية؟.
وسؤال يتعلق باعتبار مفهوم القدرة ودورها في صناعة الإستراتيجية الدستورية، فأي إستراتيجية تُؤسَس وفق قدرات المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية لا وفق كائنيته، والقدرة «هي المخزون الاحتياطي لإرادات المجتمع» في حين أن الكائنية هي مجموع الإجراءات والتطبيقات والتمثيلات المُنفّذة.
وأعتقد أن هذه الأسئلة ومتعلقاتها يجب أن لا تغيب عن صانع البرنامج الثقافي الانتخابي، وأهمها في الأولوية ماهية مرتكز قاعدة تأسيس برنامجه الانتخابي؛ هل يريد أن يؤسس إستراتيجية برنامجه الثقافي الانتخابي وفق الاستفادة من إعادة تدوير الكائنية الثقافية وإخضاعها لإجراءات الجودة الشاملة؟ أو يريد أن يُنتج إستراتيجية دستورية تهدف إلى كائنية جديدة من خلال اكتشاف المخزون الاحتياطي لقدرة الإرادة الثقافية؟.
والاختيار الأول يستلزم من صانع البرنامج الانتخابي جرد الواقع الثقافي وتشخيصه واكتشاف نقاط ضعفه وقوته وافتراض روافع لنقاط الضعف ومسنِدات لتقويتها وتعزيز نقاط قوته عبر دعم تطبيقاته ونشرها.
والاختيار الثاني يستلزم من صاحب البرنامج دراسة إحصائية تتعلق بالفئة المُستهَدفة من حيث السن والتعليم والاهتمامات، نوع القراءة، اشتراكها أو عدم اشتراكها في مناشط ثقافية، موقفها من المشهد الثقافي وقنواته والاحتياجات الثقافية، والبدائل الثقافية ومضامينها، وغيرها من الجوانب التي تُمكن المثقف من استنتاج المخزون الاحتياطي لقدرة الإرادة الثقافية عند الفئة المستهدفة.
وتحديد ماهية قاعدة التأسيس يترتب عليها مضمون شعار برنامجه الانتخابي ومضمون الرؤية والرسالة والتطبيقات الإجرائية.كما يترتب عليها الرهان على قدرة المثقف السعودي على صناعة الخطاب الثقافي الجديد وديمقراطيته؟
فهل يكسب المثقف رهان تحقيق قدرته على صناعة الخطاب الثقافي الجديد وديمقراطيته؟
جدة